اخبار فلسطين
موقع كل يوم -وكـالـة مـعـا الاخـبـارية
نشر بتاريخ: ٢ تشرين الثاني ٢٠٢٥
الكاتب: د. منى أبو حمدية
الزنزانة وصوت الصمود
في مدينةٍ نامت على جرحها، واستيقظت على اسمٍ يختصر الوطن،
يسكن عمر خرواط وجعاً عمره عقود.
ليس في بيته، بل في حجرةٍ من حديدٍ تعرف نبضه أكثر مما تعرف وجه الشمس.
تتنفس الزنزانة من صدره، ويضخّ إليها الحياة كي لا تموت.
الجدران الأربعة تحيط به، لكن قلبه وطنٌ لا أسوار له،
وخطوته الصغيرة من الفراش إلى الباب
هي مسيرة حريّة كاملة، تُعاد كل يومٍ منذ عام 2002.
لم يتعب من الصبر،
بل صار الصبر اسمه الثاني،
والأمل غذاءه الذي لا يُقطع في الحصار.
الليل هناك طويل، لكنه لا يخافه؛
يعرف أن الظلمة ليست عدواً، بل صديقة تنصت لسرّه القديم:
أنّ الحرية لا تسكن الأبواب المفتوحة، بل فيمن يخلق النور داخل القيد.
الأمل المفقود المفاجئ
ثمّة لحظةٌ تشبه المعجزة…
حين جاء الخبر: “اسم عمر بين الأسماء، سيكون حرّاً.”
ابتسمت الأم،
واستبشرت ضاحكة بضحكة خرجت من عمرها .. لا من فمها.
بدأ البيت يتهيّأ للقاءٍ مؤجل،
حتى الجدران علّقت على نفسها قصائد الشوق.
لكن الأمل الذي أطلّ من النافذة،
عاد منكسراً.
الاسم شُطب من القائمة!
والفرح انكسر قبل أن يكتمل.
سقط الخبر كحجرٍ في بئرٍ من الصمت،
فاهتزّ البيت كلّه…
وحدها الأم ظلت واقفة،
تنظر إلى الفراغ كأنها تسأله:
هل يمكن أن تُستثنى الأرواح من الحرية؟
قلب الأم الصابر
يا أم عمر…
يا صانعة الضوء من الرماد،
كم مرةٍ وضعتِ الحلم على طاولة الانتظار،
وكم مرةٍ خبأتِ الرسائل تحت وسادتك .. كأنها تعاويذ نجاة؟
أنتِ لا تبكين من الضعف، بل من الوفاء،
تسكبين دمعك على وجه الوطن وتقولين:
“سيعود… لأن الدعاء لا يُسجن، ولأن الحب لا يُقتل.”
كم مرّ عامٌ وولدك في الغياب،
وكم زهرٍ ذبل في يديك دون أن يشمّه!
ومع ذلك، تظلين تطهين الأمل كل صباح،
كأنكِ تنتظرينه على الغداء.
صمت الجدران الناطق
عمر لا يتحدث كثيراً،
لكن الجدران تنطق نيابة عنه.
تعرف كيف يكتب رسائله على الهواء،
وكيف يبتسم حين يسمع الأذان من بعيد،
وكيف ينصت إلى وقع الأقدام في الممرات الطويلة،
وكأنه يسمع هدير بحرٍ لم يره منذ سنين.
كل شيءٍ في الزنزانة صار له ذاكرة:
السرير صديقه،
والنافذة مرآته،
والقيد دفتره الوحيد.
وكل يومٍ يمر، يخطّ على الحجارة درساً جديدا في معنى الإنسان:
أنّ الحرية ليست أن تخرج من السجن،
بل أن يبقى قلبك أكبر من سجّانك.
نور الانتظار المستمر
حين يسدل الليل ستائره،
يمدّ عمر يده نحو الضوء البعيد،
ذلك الضوء الذي لا يراه، لكنه يؤمن بوجوده.
في كل سجنٍ هناك ضوءٌ لا يعرف مصدره،
وفي كل قلبٍ أسيرٍ شمعةٌ لا تُطفأ.
الانتظار عنده ليس سكوناً
بل صلاة طويلة لا تخيب.
هو يقينٌ بأن الفجر سيأتي، ولو زحفاً على أكتاف الظلام.
رسالة حب صامتة
إلى أمه التي لا تنام إلا على صوت ذكراه:
“أم عمر، أمنا جميعاً
كلما ضاق بي الجدار، أتذكّر يديكِ وهما تفتحان باب الصباح.
لا تحزني على الصفقة التي لم تأتِ،
فالحرية التي في صدرك تكفيني.
أنتِ وطني الذي لا يُحتل،
وصبرك حريتي التي لا تُقايض.
قولي للريح أن تمرّ على نافذتي،
فقد اشتقت إلى رائحة البيت.”
بريق الحرية القادم
ومع كل فجرٍ جديد،
تولد في قلبه زهرة صغيرة من ضوء،
تتفتح رغم الإسمنت،
وتنادي باسمه من بعيد.
عمر خرواط ليس أسيراً فقط،
هو نبيّ الصبر … في زمن القسوة،
يكتب بوجعه مرثيةً للحياة،
ويحوّل كل انتظارٍ إلى فعل مقاومة.
حين تُستثنى الأرواح من الحرية،
يصبح الصمود شكلاً آخر من الحياة.
وحين تبكي الأمهات في الخليل،
ينبت من دموعهنّ قوسٌ من الأمل
يمتد حتى آخر سجنٍ في الأرض.
الحرية قادمة…
ليس لأن الصفقة وعدت،
بل لأن الشمس لا تعرف طريقاً آخر
سوى أن تشرق من جديد.

























































