اخبار فلسطين
موقع كل يوم -وكـالـة مـعـا الاخـبـارية
نشر بتاريخ: ٢٠ تشرين الأول ٢٠٢٥
الكاتب: د. ربحي دولة
في لحظة يُخيَّل فيها أن بريقَ حلٍّ ما يلوح لغزة بعد عام من النار، تُطلّ الوقائع بما يعاكس هذا البريق، وتعيد إلى الذاكرة مشهداً تاريخياً مشابهاً: حين أوحت الإدارة الأميركية للرئيس العراقي الأسبق صدام حسين أن قضية الكويت شأن عربي داخلي، قبل أن تنقلب فجأة إلى غزو شامل وعقوبات واحتلال. اليوم، تُطلق إدارة ترامب الثانية تصريحات من نوع جديد، تبدو في ظاهرها مهادِنة، لكنها في جوهرها قد تحمل بذور مشروع تدميري جديد لقطاع غزة، عبر إخضاعه لتسوية غامضة، تُدخل المقاومة في مسار تفاوضي خانق ينتهي بتجريدها من عناصر قوتها، إن لم يكن من وجودها.
ما يثير الريبة أن الولايات المتحدة، في واحدة من أخطر مراحل الصراع، تعلن قبولها المبدئي ببقاء “حماس” مؤقتاً كقوة أمن في غزة، وتشير إلى خطة لإعادة الإعمار وتبادل الرهائن، فيما تُرحّب إسرائيل ضمنياً بهذه الترتيبات ما دامت تسير في اتجاه نزع سلاح المقاومة وتفكيك بنيتها. وفي غمرة هذه التصريحات، تُظهِر حماس مرونة لم تُظهرها من قبل، فتدخل في مفاوضات غير مباشرة، عبر وسطاء، تتعلّق بتفاهمات أقل بكثير من الحد الأدنى الذي طالما تمسّكت به، وتفاوض على مسائل لم تكن لتُطرح في أدبياتها السياسية، بل كانت تعتبرها خطوطاً حمراء لا تُمس.
ولعلّ الخطأ الجوهري الذي لا يمكن تجاهله هو أن حماس، ومنذ البداية، اختارت التعامل مع ملف التفاوض والسياسة كأنها كيان مستقل، أو بديل، عن الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني: منظمة التحرير الفلسطينية. بدلاً من الانخراط ضمن النسيج الوطني الفلسطيني كفصيل سياسي وشعبي له امتداده، ارتأت الحركة إدارة الملف من موقع موازٍ، ما فتح المجال لولادة مؤسسات مكررة، وخطاب سياسي موازٍ، وسلوك تفاوضي انفرادي، سحب من الشرعية السياسية وأضعف وحدة القرار الفلسطيني.
وما يحصل اليوم هو النتيجة المباشرة لهذا المسار: تفاوض منفصل، مبادرات خارج الإطار الوطني الجامع، وتحركات تستجيب لضغوط الواقع لا لضرورات الاستراتيجية الوطنية. صحيح أن حماس تواجه اليوم ضغوطاً هائلة، لكن الخيار الأصوب لم يكن يوماً في الاستمرار بمسار منفصل، بل بالانخراط الكامل في منظمة التحرير، والانضواء تحت مظلتها الوطنية، والمشاركة في صياغة القرار الفلسطيني من داخل بيته، لا من خارجه.
أما من جهة الاحتلال والولايات المتحدة، فالمخطط بات واضحاً: تفكيك ما تبقى من بنية المقاومة في غزة، وإعادة إنتاج سلطة منزوعة السلاح، تُدار تحت وصاية إقليمية أو دولية، وربما بمشاركة فلسطينية شكلية. ما يُقدَّم على أنه “حلّ إنساني” أو “فرصة للإعمار”، يُراد له أن يكون مساراً لنقل غزة من ساحة مقاومة إلى كيان مشوّه، خاضع للرقابة والابتزاز السياسي، بعيد عن خيار المواجهة أو حتى الاستقلال الحقيقي.
ويكفي أن نتمعّن في بنود الخطط المطروحة لندرك أن الهدف ليس وقف إطلاق النار فقط، بل تغيير طبيعة الحكم في القطاع، وتفكيك السلاح، وإدخال قوى دولية تحت عنوان “إعادة الإعمار”، ما يفتح الباب أمام واقع جديد لا يشبه غزة المقاومة، بل يُحاكي مناطق “منزوعة المخاطر” تُدار أمنياً باسم التنمية والاستقرار.
الخطير في هذه اللحظة أن ما يُعرض على حماس ــ وإن بدا تنازلاً تكتيكياً ــ قد يتحول إلى فخ استراتيجي: إذ أن أي قبول بسلطة منقوصة، أو إدارة مشروطة، أو تفاهمات ثنائية، دون العودة إلى الإطار الوطني الجامع، سيجعل من الحركة طرفاً ضمن مشروع تصفوي، لا مشروع تحرري، حتى لو تم ذلك بحسن نية أو تحت ضغط الواقع.
إن ما يجري اليوم في غزة ليس فقط معركة عسكرية، بل صراع على الهوية السياسية والوطنية للمنطقة. ومهما بلغت شدة المعاناة وضغط الحصار، فإن انفراد أي فصيل بالتفاوض، أو القبول بحلول مؤقتة لا تستند إلى رؤية وطنية موحّدة، لن يؤدي سوى إلى مزيد من التآكل السياسي والانقسام، وقد يفتح الباب أمام مرحلة جديدة من الاحتلال “الناعم”، الذي يُفرض باسم الإعمار، ويُدار باسم الاستقرار، لكنه في جوهره تجريد للشعب من قراره، وللمقاومة من مشروعها.
إن العودة إلى المسار الوطني الجامع، والانضواء الكامل تحت مظلة منظمة التحرير، بصفتها الإطار الذي يضم كل القوى الوطنية، لا خياراً بل واجباً. لا مفر من استعادة وحدة الصف الفلسطيني، ليس فقط في الميدان، بل في القرار. أما استمرار الأجسام الموازية، أو تفويض الحلول عبر تفاهمات منفصلة، فلن يكون إلا خنجراً آخر في خاصرة المشروع الوطني الفلسطيني.







 
  
  
  
  
  
  
  
  
  
 























































 
  
  
  
  
  
  
  
  
  
  
  
  
  
  
  
  
  
  
  
  
  
  
  
  
  
  
  
  
  
  
 