اخبار فلسطين
موقع كل يوم -وكـالـة مـعـا الاخـبـارية
نشر بتاريخ: ٣٠ أب ٢٠٢٥
الكاتب:
رائد محمد الدبعي
تعيش الحركة الوطنية الفلسطينية اليوم واحدة من أعقد أزماتها البنيوية. أزمة ليست في العدو الخارجي، ولا في الانقسام وحده، بل في غياب القيادة الحقيقية التي تمتلك مقومات نظريات القيادة السياسية المختلفة؛ إذ تفتقر القيادات الراهنة – في الحكم والمعارضة، في الوطني والإسلامي، في اليسار واليمين – إلى سمات الكاريزما، والذكاء، والطموح التي تحدثت عنها نظرية السمات، كما تفتقر إلى روح الإنجاز والالتصاق بالجماهير التي ركزت عليها النظرية السلوكية، أما عجز القيادات الحالية عن التكيف مع التحديات المصيرية، فيعكس افتقار القيادة عن محاكاة نموذج القيادة الموقفية، اما القيادة الكاريزمية، فقد انتهت فعليًا برحيل الرئيس ياسر عرفات، باستثناء الأسير مروان البرغوثي الذي يظل استثناءً وحيدًا في ساحة جرداء.
منذ الاحتلال البريطاني لفلسطين عام 1917، تَمثّل المشهد الفلسطيني في بروز قيادات فردية – الحاج أمين الحسيني، وياسر عرفات، ومحمود عباس – مع غياب المؤسسة والاحتكام إلى القانون والنظام الداخلي. ولأن أخطاء المؤسسة قابلة للتصحيح، بينما أخطاء الفرد تصبح قدرًا مفروضًا، فقد غرقت الحركة الوطنية في مأزق القيادة الفردية، وعلى النقيض، أدركت الحركة الصهيونية مبكرًا أهمية المؤسسة، فأسست المنظمة الصهيونية العالمية، والوكالة اليهودية، والصندوق القومي، والجامعة العبرية، ومؤسسات مالية واقتصادية كالبنك الأنغلو-فلسطيني، فخلقت قاعدة صلبة لمشروعها الاستعماري: أرض أكثر لليهود وعرب أقل عليها.
منذ عشرينيات القرن الماضي، لم يلتف الشعب الفلسطيني حول قادته بسبب خطاباتهم، بل بسبب حضورهم الميداني: بدءا بالحاج أمين الحسيني الذي التفّ حوله العمال والمزارعون ، وعز الدين القسام، وعبد القادر الحسيني، وياسر عرفات، وجورج حبش، وفتحي الشقاقي، وعبد العزيز الرنتيسي، ومروان البرغوثي… جميعهم صنعوا شرعيتهم من الميادين والخنادق، من دمهم وسنوات عمرهم. أما اليوم، فإن غياب القائد القدوة، وغياب القيادة الميدانية، أنتج فراغًا ملأته نماذج جديدة: “كعرين الأسود” في نابلس، وخطابات أبو عبيدة عبر الأثير، وقيادات شبابية مسلحة أو إعلامية وجماهيرية، قريبة من لغة الناس وهمومهم.
فيما ظهرت خلال السنتين الماضيتين، نماذج قيادية أخرى اكتسبت التفافا جماهيريا وشعبية متزايدة، نتيجة قدراتها الخطابية، وقدرتها على التعبير عن مواقف شعبنا، وقضيته العادلة.
هؤلاء الأشخاص يستحقون الفخر والإشادة، ولا يجب التقليل من أهمية دورهم في مسيرة التحرر الوطني، والذين ينتشرون في جميع قارات العالم، ويتقنون مختلف اللغات، ويحترفون مخاطبة العالم، واستخدام ادوات الإعلام الجديد، ومنصات التواصل الاجتماعي، إلا أن ما يحتاج للتوقف والتقييم هو محاولة عدد كبير من القيادات السياسية وممثلي الفصائل الفلسطينية منافسة هؤلاء الشباب والمؤثرين عبر وسائل الإعلام، من خلال الظهور الإعلامي المكثف والمدفوع أحيانا، والذي يعكس محاولة لتعويض غياب الإنجاز الميداني عبر صناعة صورة خطابية أو رمزية.
بالتالي تتحول الشرعية من 'شرعية الفعل' إلى مجرد 'شرعية الكلام'، وهو ما يزيد من السخط الشعبي، واضمحلال هوامش الثقة المتبقية بتلك القيادات ، إذ أن .
بروز القيادات في الإعلام أكثر من الميدان يكشف انتقال السياسة الفلسطينية نحو إدارة الرأي العام بالخطاب الإعلامي، بدل قيادة وتوجيه الجماهير، .
وهو ما يطلق عليه ' بالسياسة الاستعراضية ' (Performative Politics)، بحيث يصعب التمييز بين السياسي والخطيب، وبين القائد والمؤدي، وبين القيادة والاستعراض.
لم تتبع الجماهير في المخيمات والقرى والمدن والمنافي ياسر عرفات لقدراته الخطابية وشعاراته التعبوية، بل لحضوره بينهم، وتقدمه صفوف المقاومة، ومشاركة الناس أوجاعهم، وأفراحهم، حتى غدى صورة لهم، ولم تؤمن الناس بجورج حبش لقدراته الخطابية الاستثنائية، بقدر إيمانها به قائداً ثوريا ، ولم تبكي الناس الشيخ صالح العاروري لقدرته على التنظير، إنما لوجوده بينهم وارتقائه من اجلهم. ولا يحظى مروان البرغوثي بهذا الإجماع الوطني في مختلف استطلاعات الرأي إلا لانه يشكل نموذجا دفع من لحمه وسنوات عمره ودمه ثمنا لحرية شعبه.
إن القيادات الفلسطينية الراهنة مطالبة بأن تفهم بأنها ليست نجوماً سينمائية، ولا مؤثرين على “السوشال ميديا”، فدورهم الحقيقي بالميدان لا خلف الشاشات، وإن استمروا في البحث عن الإعجابات بدلاً من الإنجازات، وعن الصور بدلاً من المواقف، فلا يلوموا الجماهير إن أدارت ظهورها لهم. لأن القيادة ليست لعبة استعراض، بل مسؤولية دم وتضحية، ومهمة تحريك الجماهير وتوجيهها نحو التحرر .
ختاما، هذه السطور ليست دعوة لتبني أساليب قيادة شعبوية، ولا هي تنظير لاسماع الجماهير ما تطرب آذانها لسماعه، ولا هي كذلك محاولة للانزلاق بمغامرات غير محسوبة قد تعصف بما تبقى من مقومات صمود شعبنا، إنما هي دعوة للفعل، والمبادرة، والبحث عن الخيارات المتاحة والأكثر نجاعة للحفاظ على شعبنا صامدا فوق أرضه في ظل مخططات التهجير والاقتلاع، ورفض سياسة الانتظار والمراوحة بالمكان، أذ أنه وعلى الرغم من كل تعقيدات المشهدء، إلا أنه قطعا ' بالإمكان أن يكون أفضل مما كان ' .