دبيـب خريـف.. الأرض!

حسن البطل

ذيل أيلول لم يبتلّ حتى الآن. بذلك، سيغدو المَثل الشعبي السّائر: “أيلول ذنبه مبلول” يعود إلى السنوات، العقود.. والقرون الخوالي. هناك ما يشير إلى أن شتاءنا المتوسطي (في شطره الجنوبي بالذات) صار يتأخّر في القدوم.. ويتلكّأ في الرحيل.

ليست كل الأمثال الشعبية السّائرة تغدو لا محلّ لها من الإعراب عن أحوال الطقس. مثلاً: “بين تشرين وتشرين صيف ثانٍ”. ربّما نصيّف.. وأيدينا على قلوبنا، خوفاً من عامٍ ماحل، سوف يُنسينا نبوءات عن الزلازل التي تتربّص بنا “الدوائر”.. أو بالدور؟!

يبدو أن كوكبنا هذا “يرقص” احتفالاً بالألفية. ومنذ بعض السنوات، انحاز المناخ، بدوره، إلى شيء من التطرّف، فهو يبسط يده بماء السماء كل البسط فوق بقاعٍ معيّنة، ثم يغلّها كل الغلّ عن بقاعٍ أخرى: فيضانات هناك؛ وجفاف هنا.

خوفنا المتناقض: من الزلازل؛ ومن المحل يدفعنا لرفع نداء متناقض: “حوالينا ولا علينا” إزاء خطر الزلازل و”علينا ولا حوالينا” إزاء خطر سنة ماحلة.

في شتاء العام المنصرم، تمسّكت الأرصاد الجوية الإسرائيلية بتلابيب خبرتها “العريقة”، وراهنت على أن السماء سوف تجود بماء في كانون الثاني وآذار بخلت به في “التشارين” وكانون الأول (كان الشباب في رام الله يرتدون القمصان في عيد الميلاد الماضي).

لم تتحقّق النبوءات المتفائلة. نظرة إلى أشجار التين والزيتون خريف هذه الأيّام تبعث على جفافٍ في الرُّوح.. ولولا “زخّتان” في نيسان وأيار، لكانت عناقيد كروم العنب تبعث على الانقباض، أيضاً.

من المفهوم، أن ذبذبات الطقس متفاوتة من عامٍ لآخر، ثم تليها ذبذبات أطول مدى كل عدة سنوات. لكن، ثمة ذبذبات للمناخ ذاته، وهي - بدورها - قصيرة ومتوسطة.. ومديدة!

قبل 40 عاماً توالت على المنطقة ثلاث سنوات عجاف (58، 59 – 1960)، صادفت سنوات الوحدة المصرية - السورية، قصيرة العمر. وعندما انفصمت عُرى تلك الوحدة، روّج الدجّالون فكرة أن السماء غضبت على الإجراءات الاشتراكيّة الناصرية (قالوا: الاشتراكيّة من الشِّرْك). بعض البسطاء صدّقوا، وبخاصة أن شتاء العام التالي للانفصال 1962 كان مَطيراً!

كقاعدة أوّلية، عامّة وبسيطة، يبدو التالي: عندما يبدأ الشتاء باكراً نسبياً ومَطيراً استثنائياً على الشاطئ الشمالي للمتوسط، يكون متأخّراً وقاحلاً، نسبياً أو بشدّة، على الشاطئ الجنوبي. كقاعدة أكبر، أبعد مدى وأكثر تركيباً، يبدو التالي: عندما تغرق المناطق تحت المدارية (الاستوائية وشبه الاستوائية) بالطوفانات، يضرب الجفاف المناطق فوق المدارية الشمالية (مثل منطقتنا) أو الجنوبية (جنوب أميركا الجنوبية، جنوب أفريقيا، أستراليا).

علماء الجوّ يستجيرون بعلماء الجغرافيا، وهؤلاء بعلماء الفلك.. والأخيرون يتحدثون عن أسباب تتعلق بدورات موسمية للشمس “المجنونة”، أو للسديم الذي تدور فيه المجموعة الشمسية. ولن نصل إلى دوران المجرّة حول نفسها، لأنها بالكاد أتمّت عدّة دورات منذ الخليقة!

تقول نظرية فلكية “جديدة” إن وفرة الماء على كوكب الأرض هبة استثنائية، كان ينعم بها كوكب المرّيخ قبل مئات ملايين السنين، أو مليار سنة مثلاً.

بذلك، فإن مصير كوكب الأرض صنو مصير جاره كوكب المريخ (الذي ستصله وشيكاً مركبة فضائية غير مأهولة للتأكد من تاريخه المائي - الكوني).

ويقول جيولوجي ألماني، مُعزّزاً هذه النظرية، إن مياه المحيطات تتسرّب، تدريجياً، إلى جوف الأرض، أو تحت قشرة القارات، على عمق 400كم، وبمعدل سنوي يزيد على المليار طن كل سنة.

من يتذكّر قصّة جول فيرن الخيالية عن محيطات ماء تحت المحيطات السطحية؟

لدينا قصة ماثلة هي انخفاض سطح ماء البحر الميت خلال عشرات معدودة من السنين إلى - 415م بعدما كانت - 396. هناك عامل البخر وضعف صبيب نهر الأردن وروافده.. ومياه السيول والينابيع؛ وهناك تسرّب الماء إلى تحت القشرة الأرضية.. ربّما!لا مناص للإنسان وحضارته من اختراع وسيلة رخيصة لتحلية ماء البحر بكميات كبيرة وكلفة اقتصادية.. وإلى حين ذلك هناك، حلول موضعية تبدأ من “الترشيد” إلى التوزيع العادل.. إلى “تعدين” الماء من على عمق مئات الكيلومترات تحت قشرة الأرض.. إلى ضبط الانفجار السكاني.

وقبل كل شيء بالدعاء: “حوالينا ولا علينا” إزاء الزلازل، و”علينا ولا حوالينا” إزاء الأمطار.

عسى أن يكون ذنب أيلول مبلولاً، ولو أن كوكب الأرض يدخل خريفه الجيولوجي.. وربما الكوني والله أعلم؛ «وفوقَ كلِّ ذي عِلمٍ عَليمٌ”.

23-9-1999