اخبار فلسطين
موقع كل يوم -وكـالـة مـعـا الاخـبـارية
نشر بتاريخ: ٩ تشرين الأول ٢٠٢٥
الكاتب: أيوب عليان
في زمنٍ تتعدد فيه الخطط والإصلاحات التربوية دون أن تلامس جوهر التعليم، يطلّ فكر المربي الفلسطيني الكبير خليل السكاكيني من ذاكرة القدس ليذكّرنا بأن الحل الحقيقي لأزماتنا التربوية لا يكمن في تغيير الكتب أو الأنظمة، وإنما عبر تجديد الفلسفة التربوية ذاتها.
فلقد أدرك السكاكيني، منذ أكثر من قرن، أن التعليم لا يُصلح بالحفظ والامتحانات، بل بتحرير العقل وغرس القيم الإنسانية، وأن المدرسة لا تُبنى بالجدران والمناهج وحدها، بل بالمحبّة والحرية والإبداع.
واليوم، ونحن نواجه تحديات متراكمة في نظامنا التربوي الفلسطيني، يبدو أن العودة إلى المنهج الإنساني والفكري للتربوي الفذ السكاكيني ليست رجوعًا إلى الماضي، بل خطوة جريئة نحو المستقبل، فقد عبر الرجل عن رؤية استشرافية معبرة عن رؤية ثاقبة عابرة للزمن.
منهج يقوم على الإنسان لا على الامتحان _ كان السكاكيني يرى أن التعليم لا يمكن أن ينجح إذا فقد جوهره الإنساني، فالتربية في نظره ليست تلقينًا لمعارف، بل هي بناء للإنسان القادر على التفكير والنقد والإبداع والمسؤولية.
كما رفض النظام القائم على الحفظ الآلي والامتحانات النمطية، معتبراً أن المدرسة يجب أن تُخرّج مواطنًا واعيًا ومنتميًا، لا مجرد طالب يسعى إلى شهادة، وبذلك كان من السباقين للتربية على المواطنة، مستلهما الدور الطليعي للمدرسة تحديدا وللنظام التربوي برمته.
وفي تجربته الرائدة بمدرسة الدستورية التي أنشأها في القدس عام 1909، جسّد السكاكيني هذه الفلسفة عمليًا، فحوّل المدرسة إلى فضاء حيّ للتفكير والحرية والتجريب، لا مجرد مؤسسة للضبط والسيطرة. كان يقول إن التعليم يجب أن يكون حبًّا للحياة لا خوفًا من العقوبة.
تحرير التعليم من السلطة والجمود_ تميّز السكاكيني بفكرٍ تحرري في زمنٍ كانت فيه المدرسة أداة للضبط الاجتماعي، فرفض أن يكون التعليم وسيلة لفرض السلطة أو التبعية، سواء السياسية أو الدينية أو الاجتماعية.
وكان مؤمنا أن المعلم قائد فكري لا منفّذا للأوامر، وأن دور المدرسة تنمية الحرية والعقل النقدي لدى الطلبة.
لذلك؛ ألغى العقاب البدني، وشجع على الحوار، وفتح الباب أمام الطلبة للتعبير عن آرائهم، وأسس لعلاقة جديدة بين المعلم والطالب تقوم على الاحترام المتبادل والمحبّة.
هذا النموذج الأخلاقي في العلاقة التربوية ما زال يشكّل أساس أي إصلاح تعليمي معاصر يقوم على الكرامة الإنسانية.
التربية الشاملة: العقل، الجسد، الروح، والوجدان_ آمن السكاكيني أن الطفل كائن متكامل، لا يمكن تجزئته بين دروس ومعارف جامدة. لذلك كان من أوائل من دعوا إلى التربية المتكاملة التي تشمل تنمية الذكاء والخيال والذوق الفني والروح الأخلاقية.
هو من أدخل إلى مدرسته دروس الموسيقى والرسم والرياضة والرحلات والأنشطة الاجتماعية، ليجعل التعلم خبرة حياتية ممتعة.
في ذلك كله؛ كان ابن القدس يلتقي مع الفكر التربوي الحديث الذي نادى به جون ديوي وماريا مونتيسوري، لكنه سبقهما في تطبيق مبادئه في البيئة العربية المحلية، مؤمنًا بأن المدرسة ليست مكانًا للتلقين، بل مختبرًا للحياة.
تربية لغوية ووطنية أصيلة_ لم يكن السكاكيني مجرد مصلح تربوي، بل كان أيضًا حارسًا للهوية الوطنية والثقافية. فقد أولى اللغة العربية مكانة مركزية في المنهج، ليس باعتبارها مادة دراسية فحسب، بل وسيلة للتعبير عن الذات والانتماء، وحاضنة للفكر، ومنطلقا للتعبير، ومخزونا استراتيجيا غير قابل للنفاذ حيث سادت لديه قناعات أن تعليم اللغة يجب أن يكون حيًّا مرتبطًا بالواقع والحياة، لا حفظًا للقواعد والمعاجم.
كما حرص على أن يتربى الطالب على حب الوطن والحرية والعدالة، مؤمنًا أن المدرسة مصنع المواطن الصالح الذي يبني ولا يهدم، ويفكر بعقله لا بتوجيهات غيره.
السكاكيني والنظام التربوي الفلسطيني المعاصر_ إذا ألقينا نظرة على واقع التعليم في فلسطين اليوم، نجد أن كثيرًا مما حذّر منه السكاكيني قد تحقق، ومن أبرز المظاهر المعبرة عن ذلك ما يأتي:
* هيمنة ثقافة الامتحان على حساب الفهم والإبداع.
* غياب العلاقة الإنسانية بين المعلم والطالب بسبب الضغط الإداري والتقييم الكمي.
* ضعف الربط بين التعليم والحياة اليومية.
* تراجع قيم المبادرة، والبحث، والمواطنة الفاعلة.
من هنا؛ فإن العودة إلى منهج السكاكيني لا تنحصر في نطاق الحنين إلى الماضي، إذ هي دعوة لإحياء جوهر التربية الفلسطينية التي قامت على قيم الحرية والعقل والمعرفة الإنسانية.
إن تبني رؤية السكاكيني اليوم تتطلب وعيا شموليا وفق رؤية معبرة عن النزوع ل:
1. إصلاح فلسفة المناهج لتصبح قائمة على الكفايات والتفكير النقدي لا على الحفظ.
2. تمكين المعلم باعتباره شريكًا في صنع القرار التربوي، لا مجرد منفّذ.
3. جعل المدرسة بيئة للحوار والإبداع والعمل الجماعي.
4. تعزيز الأنشطة الفنية والاجتماعية في التعليم لبناء شخصية متوازنة.
وأخيرا ؛ لم يكن خليل السكاكيني مجرد مربٍّ من القرن الماضي، بل رائد فكر تربوي متجدد سبق زمانه بعقود، وهو الذي آمن بأن التعليم لا يُصلح بالأوامر والمناهج الجامدة، بل بإعادة الإنسان إلى مركز العملية التعليمية.
واليوم، ونحن نبحث عن طريق ينهض بتعليمنا الفلسطيني في ظل الاحتلال والظروف الاقتصادية الصعبة، لعلّ العودة إلى فكر السكاكيني تمثل الخطوة الأولى نحو مدرسة فلسطينية حرة، أصيلة، ومبدعة — مدرسة تزرع في الطالب حب الحياة، والإيمان بالإنسان، والقدرة على التغيير، ففي كل ما طرحه ثمة فكر تربوي عميق يحقق التوازن بين ثنائية التربية والتعليم وفق منظور ينتصر للتأطير على حساب التنظير ، وقد حان الوقت لإعادة استلهام رؤيته ، وحين ننتصر له إنما ننتصر لفكره لا لشخصه، فنحن إزاء مفكر تربوي عالمي لا فلسطيني فحسب، فهو صاحب منهج وطريقة خاصة لا في التربية فقط بل وفي فلسفتها .

























































