اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ١٨ تشرين الأول ٢٠٢٥
حين فُتح باب السجن الحديدي فجأة في تلك الليلة الباردة، لم يكن الأسير بلال عجارمة (45 عامًا) يصدق أن اسمه سيكون بين من سيفرج عنهم، بعد أن حكم عليه الاحتلال بالسجن مؤبدين وعشرين عامًا.
خرج بلال إلى الحرية بعد أن أمضى ثلاثةً وعشرين عامًا خلف القضبان، لا يحمل معه شيئًا من متاع الدنيا سوى جسدٍ أنهكه السجن وذاكرةٍ مثقلةٍ بالوجع، لكنه كان يحمل ما هو أثمن: روحًا لم تنكسر وأملًا لا يخبو.
رحلة بين السجون
يستعيد بلال، ابن بلدة سلواد شرقي مدينة رام الله، والمعتقل منذ سبتمبر/ أيلول 2003، رحلته الطويلة خلف القضبان، وكأنها شريط لا نهاية له: 'دخلت كل السجون، من مجدّو وجلبوع وشطة في الشمال، إلى هداريم والرملة في الوسط، وصولًا إلى سجون النقب وريمون ونفحة الصحراوية، حيث أمضيت آخر سنواتي هناك. كانت عملية التنقّل المتواصلة عقابًا بحد ذاته، لأن الاحتلال يستخدم عدم الاستقرار وسيلة لتعذيب الأسرى'.
يصف عجارمة لحظة الإفراج عنه بأنها كانت 'صاعقة'، إذ يقول: 'خرجنا من سجن نفحة يوم الجمعة فجأة، دون علم مسبق، حيث جرى نُقلنا ليلًا إلى سجن 'كتسعوت' في النقب، ولم نُبلغ أننا ضمن قائمة المفرج عنهم، ولم ندرك أننا على أعتاب الحرية إلا عند معبر رفح، لحظة تسليمنا إلى الجانب المصري'.
كانت تلك اللحظة، كما يروي، مزيجًا من الدهشة والدموع، بين فرحٍ ثقيلٍ بالحرية ووجع دفين على من تركوهم خلف القضبان.
جحيم السنوات الأخيرة
وعن أصعب ما مر به، يصمت بلال طويلاً قبل أن يقول: 'من أصعب الأسئلة التي يمكن أن تُطرح على أي أسير هي كيف كانت حياتك في السجن، لأن الكلمات لا تكفي لوصف ما مررنا به، خاصة في العامين الأخيرين بعد السابع من أكتوبر. ما جرى كان جحيمًا حقيقيًا، إذ تحول الأسرى إلى أجساد هزيلة بفعل التجويع والتعذيب، حتى أنني فقدت أكثر من 45 كيلوغرامًا من وزني'.
ويضيف: 'رأيت زملاء أمضوا معي عشر سنوات أو أكثر، لكننا في هذه الحرب لم نعد نعرف بعضنا من شدة التغيّر الذي طرأ على ملامحنا. الاحتلال مارس كل أشكال الإذلال، من التجويع إلى الشتم إلى تحقير الذات الإلهية، وصولًا إلى إهانة الأمهات الفلسطينيات، وهي أقسى ما يمكن أن يتعرض له الأسير'.
يصف عجارمة ما يجري في سجون الاحتلال بأنه تعذيب منظم ومقصود يهدف إلى تدمير الروح المعنوية للأسير الفلسطيني: 'كل ما كان يتعلق بتنظيم حياة الأسرى داخل السجن يُعتبر تهديدًا للأمن القومي الإسرائيلي في نظرهم. مجرد الحديث عن غزة أو عن انتمائنا الفلسطيني كان كفيلًا بأن يجلب علينا أقسى أنواع العقوبات'.
ويتابع: الاحتلال صب كل حقده بعد السابع من أكتوبر على الأسرى، شعروا أنهم تلقوا ضربةً لم يتوقعوها في تاريخهم، فضاعفوا انتقامهم منا داخل السجون. التعذيب كان ممنهجًا، والتجويع كان سياسة، كانوا يريدون إذلال الأسير الفلسطيني وتحطيم روحه'.
يواصل عجارمة حديثه: 'لم يكن التعذيب محصورًا بغرف التحقيق فقط، بل كان يجري في كل مكان، في الزنازين، في ساحات السجن، في الممرات، حتى الغرفة التي تتسع لستة أسرى كانت تضم أحيانًا أكثر من عشرين، إذ صارت الزنازين مكتظة لدرجة لا يمكن تخيلها، كأننا نحيا في مقابر مغلقة.'
رسائل لا تُنسى
أما عن الرسائل التي حملها من رفاقه في السجون، يقول عجارمة: 'لا نملك شيئًا نحمله من هناك. صادروا كل ممتلكاتنا منذ أول يوم في الحرب: الملابس، الصور العائلية، الكتب، حتى الرسائل القديمة. لم يبقَ لنا سوى ما نحمله في قلوبنا. الأسير الفلسطيني يقول للعالم: نحن شعب يحب الحياة، نريد فقط أن نعيش بكرامة كما تعيش شعوب الأرض'.
ويضيف بحرقة: 'أنا فقدت أمي وأبي داخل السجن. كنت أحلم أن أخرج يومًا لأزور قبريهما وأرتمي على ترابهما، لكن الاحتلال حرمني حتى من هذا الحلم. خرجت إلى الحرية وأنا أحمل وجعًا لا يوصف، لكنه وجع ممزوج بالإصرار على الحياة'.
ويختم حديثه بكلماتٍ تختصر التجربة كلها: 'الاحتلال يخشى الأسير الفلسطيني أكثر مما يخشى الصاروخ، لذلك يمنع الاحتفال بخروجنا، يمنع توزيع الحلوى، يمنع الابتسامة، لكنه لا يستطيع أن يمنع روحنا الحرة، لأن الحرية لا تُمنح، بل تُنتزع. وسننتزعها كلنا، يومًا ما'.