اخبار فلسطين
موقع كل يوم -اندبندنت عربية
نشر بتاريخ: ٣ حزيران ٢٠٢٥
النشاط الفرنسي قد يشكل نقطة تحول في التعاطي الأوروبي مع إسرائيل ويعيد رسم ملامح العلاقات السياسية والاقتصادية بالمنطقة
وسط تصاعد مأساة غزة التي تخنقها الحرب والحصار، يسعى المجتمع الدولي إلى الحفاظ على بارقة أمل لتحقيق السلام، في ظل مخاوف متزايدة من فقد آخر فرصة لإحياء حل الدولتين. وفي باريس، تتعالى الدعوات لاتخاذ إجراءات عاجلة وحاسمة تحمي هذه الفرصة قبل أن تتحول إلى سراب.
تحتفظ فرنسا بتاريخ متبنٍ لمواقف داعمة للشعب الفلسطيني في النزاع مع إسرائيل، بدءاً من عهد الجنرال شارل ديغول، المعروف بتوجهاته الحذرة والمعقدة تجاه إسرائيل، مروراً بفترة فرانسوا ميتران الذي كسر المحرمات بإعلانه الصريح دعم قيام 'الدولة' الفلسطينية عام 1982، ووصولاً إلى جاك شيراك، الذي منحه ياسر عرفات لقب 'الدكتور شيراك' اعترافاً بدعمه الثابت والمستمر للقضية الفلسطينية. وظلت باريس تحتفظ بموقف راسخ في هذا النزاع.
واليوم، يخطو الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خطوة غير مسبوقة معلناً أن الاعتراف المشروط بدولة فلسطين لم يعد خياراً، بل 'واجب أخلاقي ومطلب سياسي ملح'. كما دعا إلى توحيد الجهود الأوروبية وتصعيد الضغوط الدبلوماسية على إسرائيل، في محاولة لإعادة الأمل إلى عملية السلام التي طال انتظارها.
فالاعتراف بدولة فلسطين ليس مجرد رمز سياسي، بل هو تعبير واضح عن رفض اختفاء الشعب الفلسطيني، واختيار الحل السياسي بدلاً من استمرار نزيف الحرب وإعادة تشكيل المنطقة بالقوة العسكرية.
وكانت مستشارة الرئيس ماكرون لشؤون الشرق الأوسط، آن كلير ليغاندر، أكدت في 23 مايو (أيار) الماضي ضرورة التحول من الأقوال إلى الأفعال، مشددة على أن الأوضاع الراهنة تستدعي الحفاظ على آفاق قيام دولة فلسطينية، واتخاذ خطوات عملية لا يمكن التراجع عنها.
من الحياد التقليدي إلى التحرك الدبلوماسي الجريء
شهد الموقف الفرنسي أخيراً تحولاً لافتاً في تعاطيه مع الحرب الإسرائيلية على غزة، حيث انتقلت باريس، وتحديداً الرئيس إيمانويل ماكرون، من موقف يوصف تقليدياً بـ'الحياد'، إلى توجيه انتقادات وممارسة ضغوط على الجانب الإسرائيلي. لكن هل يشكل هذا التغيير تحولاً حقيقياً في السياسة الفرنسية أم هو مجرد تكيّف ظرفي مع متغيرات المشهد؟
يرى المحلل السياسي طارق وهبي أن فرنسا لم تكن يوماً محايدة بالكامل في مواقفها، إذ كثيراً ما اعتبرت أمن إسرائيل مسألة استراتيجية لا تقبل المساومة. وبالنسبة له، فإن إعلان ماكرون تأييد الاعتراف بدولة فلسطينية لا يمثل قطيعة مع السياسات السابقة، بل هو 'إقرار متأخر بما تضمنه قرار التقسيم الأممي لعام 1947'.
غير أن وهبي يشير إلى أن التوقيت هو العنصر الأبرز في هذا التحول. فبعد زيارة ماكرون إلى مدينة العريش واطلاعه المباشر على الأوضاع الإنسانية الكارثية، وفي ظل الانحياز الأميركي الكامل لإسرائيل، بدا للرئيس الفرنسي أن من الضروري اتخاذ موقف يوازن بين الاعتبارات الإنسانية والدبلوماسية، ويحفظ لباريس موقعها كفاعل دولي مستقل نسبياً.
أما على مستوى الرأي العام، فيربط وهبي بين هذا التحول الدبلوماسي وبين التغير المتسارع في المزاج الشعبي داخل فرنسا وخارجها. ويقول، 'بعد أسابيع من اندلاع حرب السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، والطريقة الهمجية التي ردت بها إسرائيل، بدأت الأصوات الشعبية تتعالى، ليس فقط في أوروبا بل في مختلف أنحاء العالم، مطالبة بمحاسبة حكومة بنيامين نتنياهو على ما ترتكبه من مجازر وانتهاكات صريحة للقانون الدولي الإنساني'.
ويضيف أن هذا الضغط الشعبي المتزايد خلق أرضية سياسية تتيح وتدعم تحركات دبلوماسية أكثر جرأة تجاه إسرائيل. وفي هذا السياق، جاءت المبادرة الجنوب أفريقية لرفع دعوى أمام محكمة العدل الدولية ضد نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت كإحدى ثمار هذا التحول.
يُنظر إلى تصريحات ماكرون في شأن الصراع في غزة، والدعوة إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية، على أنها تتجاوز البعد الإنساني أو الأخلاقي، لتعكس– في العمق– طموحاً فرنسياً بإعادة تموضع باريس كلاعب مستقل ومؤثر داخل السياسة الخارجية الأوروبية.
ويؤكد المحلل السياسي طارق وهبي أن الانحياز الأميركي لإسرائيل شكّل دافعاً لفرنسا لإعادة تفعيل دور الاتحاد الأوروبي كفاعل مركزي في حل النزاعات الدولية. ويقول، 'باريس تسعى إلى استعادة زمام المبادرة داخل الفضاء الأوروبي، وتوظف ثقلها الدبلوماسي لحشد غالبية داخل الاتحاد تدعم قرارات ذات طابع فرنسي، تعكس رؤيتها لموازنة العلاقات الدولية خارج مظلة واشنطن'.
في هذا السياق، لا تبدو تحركات ماكرون مجرد رد فعل على أزمة غزة، بل جزءاً من استراتيجية أوسع تهدف إلى إعادة تعريف دور فرنسا في عالم يتجه نحو تعددية الأقطاب، ويشهد تصدعاً متزايداً في هيمنة الغرب التقليدي بقيادة الولايات المتحدة.
ويثير التوجه الباريسي نحو الاعتراف الرسمي بالدولة الفلسطينية تساؤلات عدة حول مستقبل العلاقات الفرنسية-الإسرائيلية، بخاصة في ظل التصعيد اللفظي الأخير من جانب حكومة نتنياهو. ويشير وهبي إلى أن الرد الإسرائيلي على التصريحات الفرنسية جاء سريعاً وحاداً، لا سيما بعد تلقي تل أبيب تأكيدات خطية من وزارة الخارجية الفرنسية حول جدية باريس في المضي قدماً بهذه المبادرة.
ويوضح وهبي أن رئيس الوزراء الإسرائيلي لم يتردد في مهاجمة الرئيس الفرنسي، وذهب إلى حد وصفه بأنه 'يشن حملة صليبية ضد اليهود'، في تصعيد غير مسبوق. كذلك صدرت عن دوائر إسرائيلية اتهامات لماكرون بـ'مساندة الإرهابيين في ’حماس’' أو 'تسهيل عملياتهم المستقبلية'، ما يعكس حجم التوتر المتصاعد بين الجانبين.
ولم تقتصر التداعيات على العلاقات الثنائية فحسب، بل امتدت إلى داخل الاتحاد الأوروبي، إذ بادرت بعض الدول إلى المطالبة بتجميد اتفاقية التعاون مع إسرائيل. مثل هذه الخطوة من شأنها أن تضرب أحد الأعمدة الاقتصادية الحيوية للمستوطنات الإسرائيلية، التي تصدر جزءاً كبيراً من منتجاتها الزراعية إلى الأسواق الأوروبية.
في هذا السياق، يبدو أن الاعتراف الفرنسي، إن جرى رسمياً، لن يكون مجرد خطوة رمزية، بل قد يشكل نقطة تحول في التعاطي الأوروبي مع إسرائيل، ويعيد رسم ملامح العلاقات السياسية والاقتصادية في المنطقة.
والسؤال الآن، كيف يمكن أن يؤثر هذا التحرك في الديناميات داخل الاتحاد الأوروبي؟ وهل يدفع نحو سياسة خارجية أوروبية أكثر استقلالاً؟
هنا يشير وهبي إلى أن السياسات الأوروبية الخارجية كانت في أوقات كثيرة مختلفة أو متباينة عن السياسات للدول، وهذا ما كان يخلق داخل الاتحاد بعض النفور أما الآن فمعظم الدول تتفق مع التصورات السياسية الخارجية الأوروبية، وهذا يعيد بناء النواة الأوروبية التي تساعد على تماسك الاتحاد والعمل على تقويته عبر الطرح الأخير للرئيس ماكرون حول بناء عمود جديد في الاتحاد وهو الدفاع والأمن.
وفي ظل المبادرة الفرنسية الرامية إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية، تتجه الأنظار إلى الاتحاد الأوروبي، ومدى تأثير هذه الخطوة على دينامياته الداخلية وسياسة الخارجية الموحدة.
ويقول وهبي إن السياسات الخارجية الأوروبية اتسمت دوماً بالتباين بين الدول الأعضاء، ما أدى أحياناً إلى ظهور حالة من التوتر أو 'النفور' داخل التكتل. لكنه يرى أن ما يحدث اليوم يمثل تحولاً مهماً، فالغالبية الساحقة من الدول الأوروبية باتت أقرب إلى تبني رؤية مشتركة في السياسة الخارجية، بخاصة في ظل التطورات الجيوسياسية الأخيرة، ومنها الحرب في غزة.
ويوضح أن 'هذا يعيد بناء النواة الأوروبية التي تساعد على تماسك الاتحاد والعمل على تقويته، عبر الطرح الأخير للرئيس ماكرون حول بناء عمود جديد في الاتحاد، وهو الدفاع والأمن الأوروبي'.
بهذا المعنى، لا يُنظر إلى التحرك الفرنسي في قضية فلسطين كتحرك منفصل، بل كجزء من رؤية استراتيجية أوسع تهدف إلى ترسيخ سياسة خارجية أوروبية موحدة، وأكثر تحرراً من الإملاءات التقليدية.
الصراع في الشرق الأوسط: اعتراف فرنسا بفلسطين ودلالاته
يشير الصحافي والمحلل السياسي المتخصص في الشأن الفرنسي، تميم هيكل، إلى أن باريس، ومنذ منتصف سبعينيات القرن الـ20، لم تعد قادرة على غض الطرف عن المشاهد اليومية للحرب والدمار، خصوصاً عندما تتعارض مع منظومة القيم التي تقوم عليها الجمهورية الخامسة.
ويؤكد هيكل أن ما تقوم به إسرائيل اليوم في قطاع غزة يواجه موجة غير مسبوقة من الانتقادات، ليس فقط داخل الأوساط السياسية والشعبية الفرنسية، بل أيضاً على مستوى المحيط الإقليمي والدولي الذي تشكّل فيه فرنسا جزءاً من الفضاء الأوروبي المدافع عن حقوق الإنسان والديمقراطية. ويرى أن هذا التناقض الصارخ بين المبادئ المعلنة والممارسات القائمة بات يفرض على باريس إعادة النظر في مقاربتها للصراع.
ويوضح أن استمرار إسرائيل في سياساتها الحالية يجعل من الصعب التعامل معها كحليف، بخاصة في ظل انتهاكها الواضح للقيم مثل احترام حقوق الإنسان والقانون الدولي، مشيراً إلى أنه داخل المجتمع الفرنسي ذاته تتصاعد موجة الرفض للحرب في غزة، حيث تبرز مواقف معارضة لإسرائيل بوضوح داخل التيارات اليسارية، وهي مواقف متجذرة تاريخياً.
واللافت، بحسب هيكل، أن هذه المعارضة لم تعد حكراً على اليسار، بل بدأت تتسرب إلى أوساط اليمين أيضاً، إذ بات من الممكن سماع أصوات محسوبة على الطيف اليميني تعبر عن مواقف ناقدة للسياسات الإسرائيلية، وهو تطور غير مألوف في السياق الفرنسي.
ويُلفت الانتباه إلى أن فرنسا، ومعها العديد من الدول الغربية، لم تعد قادرة على تحمل مشاهد الإبادة المتكررة في غزة، والذي بات يعرض بشكل يومي أمام الرأي العام العالمي. ويضيف أن هذا الموقف يزداد تعقيداً في ظل السياق الجيوسياسي الحالي، حيث تواجه أوروبا حرباً مفتوحة مع روسيا على الأراضي الأوكرانية.
ويبرز هيكل هذا التناقض الصارخ، إذ استخدمت الدول الأوروبية، وعلى رأسها فرنسا، خطاب القيم الإنسانية والدفاع عن الديمقراطية لتبرير دعمها لأوكرانيا في مواجهة روسيا. لكن استمرار الانتهاكات الإسرائيلية في غزة يضع هذه القيم على المحك، ويُضعف من صدقيتها أمام شعوبها وأمام الرأي العام الدولي، الذي بات يطالب بسياسة خارجية أكثر اتساقاً ومصداقية.
منذ وصوله إلى الإليزيه، يُظهر الرئيس إيمانويل ماكرون طموحاً واضحاً لفك ارتباط السياسة الفرنسية بالإملاءات الأميركية، ساعياً إلى رسم مسار دبلوماسي أكثر استقلالية يُعبر عن رؤية فرنسية بخاصة لدور أوروبا في النظام العالمي.
لكن، وفقاً للصحافي والمحلل السياسي تميم هيكل، فإن هذا التوجه يبقى ضمن إطار الخطاب السياسي أكثر مما هو واقع فعلي. ففرنسا اليوم، كما يرى، لا تملك الأدوات الكافية لتبني سياسة خارجية مستقلة بالكامل. تعاني باريس من أزمات اقتصادية داخلية، وتواجه تحديات جيوسياسية معقدة داخل الفضاء الأوروبي، فضلاً عن تراجع نفوذها في مستعمراتها السابقة في أفريقيا، حيث شهدت انسحاباً شبه كامل سياسياً واقتصادياً من عدة مواقع كانت تعتبر امتداداً لنفوذها التاريخي.
ويخلص هيكل إلى أن هذه المحاولات، وإن كانت تعبر عن رغبة مشروعة، تأتي متأخرة في لحظة فقدت فيها فرنسا الكثير من عناصر القوة التي كانت تخولها اتخاذ قرارات خارجية مستقلة عن شركائها في الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة.
وينبه إلى أن فرنسا تواجه اليوم وضعاً شديد الحساسية في علاقاتها المتوترة مع الولايات المتحدة، سواء على الصعيد السياسي أو في سياق الحرب المستمرة في أوكرانيا. هذا الواقع يضع باريس أمام مسؤوليات كبيرة داخل الاتحاد الأوروبي، إذ أصبح من الصعب عليها الاستمرار كقوة مؤثرة منفردة خارج إطار التعاون والتنسيق مع الدول الأوروبية.
يقول تميم هيكل إن أوساط النخبة الفرنسية اليوم تشهد تململاً واضحاً تجاه الحرب الدائرة في غزة. ففي السابق، كانت هناك نخبة فرنسية كبيرة تدعم الحرب ضد حركة 'حماس'، لكن اليوم يلاحظ تغيراً كبيراً، خصوصاً في وسط الإعلام الفرنسي، حيث تبدي بعض الصحف مواقف نقدية لاذعة تجاه استمرار الإبادة ضد الشعب الفلسطيني في القطاع. وبالتالي، يبدو أن الدبلوماسية الفرنسية لم تعد قادرة على تحمل هذا الضغط المتصاعد.
في تحليله لتصريحات ماكرون، يوضح هيكل أنه لا يمكن اعتبار هذه التصريحات تحولاً استراتيجياً، فإسرائيل تبقى الحليف الأول، وليس من المتوقع أن تغير الدول الغربية تحالفاتها بسبب الحرب في غزة. لكن تصريحات ماكرون مبنية على وضع إنساني قاس، وفي حال انطلقت عمليات سلام جديدة في الشرق الأوسط مع إسرائيل، يعتقد هيكل أن الموقف الفرنسي سيعود إلى دعم إسرائيل مجدداً.
السياسة الفرنسية الحالية تحاول دفع الأمور نحو السلام وحل الدولتين، فاليوم لا أحد يدعم استمرار الحرب، التي ستنتهي عند نقطة اعتبار إسرائيل في خطر، ولذلك يسعى الغرب إلى الحفاظ على دولة إسرائيل.
بحسب تميم هيكل، فإن لب الموضوع يتمثل في سعي الولايات المتحدة إلى دفع فرنسا والدول الأوروبية لممارسة ضغوط على حكومة بنيامين نتنياهو، بهدف تسهيل المفاوضات بين إسرائيل وحركة 'حماس'. ويبدو أن واشنطن تسعى لوضع حكومة نتنياهو تحت ضغط حقيقي يدفعها إلى التوصل لاتفاق يؤدي إلى وقف لإطلاق النار في غزة.
ويرى أن الولايات المتحدة ترغب في إنهاء حدة الصراع في أقرب وقت ممكن، بخاصة بعد أن منحت إسرائيل مساحة زمنية كافية لإنهاء عملياتها في القطاع. ومع ذلك، لا تزال الحركات المسلحة الفلسطينية والشعب الفلسطيني صامدين في مواجهة استمرار العدوان.
وعلى جانب آخر، يشير تميم هيكل إلى أن أحد التغيرات الكبرى يتمثل في أن العديد من الدول الأوروبية سوف تمشي على خطة فرنسية نحو الاعتراف بالدولة الفلسطينية، بعد أن أدركت أن الوضع الحالي للفلسطينيين لا يمكن أن يؤدي إلى سلام دائم. فقد أصبح من الواضح أن غياب الحل السياسي واستمرار المعاناة لن يُفضي إلى الاستقرار في المنطقة.
ومن المرجح، بحسب هيكل، أن تعترف دول أوروبية أخرى قريباً بدولة فلسطين. غير أن هيكل يرى أن هذا الاعتراف جاء متأخراً، وقد لا يكون كافياً بحد ذاته لتحقيق نتائج ملموسة على الأرض. ويضيف أن العالم الآن في انتظار خطوات عملية أكثر جدية، تُمهد لإطلاق مسار حقيقي لعملية سلام عادلة وشاملة.
وعن الانعكاسات المحتملة على العلاقات الفرنسية- الإسرائيلية في حال مضت باريس فعلياً في الاعتراف بالدولة الفلسطينية يؤكد تميم هيكل أن إسرائيل ستتجه على الأرجح إلى اتخاذ إجراءات عقابية ضد فرنسا، بخاصة في ظل حكومة بنيامين نتنياهو. ومع ذلك، يرى أن العلاقات الاستراتيجية بين فرنسا وإسرائيل، سواء على المستوى الثنائي أو ضمن الإطار الغربي الأوسع، لن تشهد تحولاً جذرياً. وقد تُسجل بعض التوترات أو الخلافات بين السلطات الفرنسية والإسرائيلية، لكن من غير المرجح أن تؤدي هذه الخلافات إلى قطيعة شاملة، إذ لا يمكن للطرفين الاستغناء عن هذه العلاقة التي تظل ذات طابع استراتيجي.
ومن جهة أخرى، يكشف هيكل أن جوهر الخلاف القائم حالياً يتمثل في رؤية العديد من الدول الأوروبية بأن حكومة نتنياهو لم تعد تقوم بدورها في الحفاظ على استقرار دولة إسرائيل. ومن هذا المنطلق، بدأ يتبلور تدخل أوروبي يستند إلى قناعة مفادها أن ضمان أمن إسرائيل لا يتحقق من خلال التصعيد العسكري، بل عبر تحقيق الاستقرار الإقليمي والدفع نحو حل سياسي شامل.
وعن كيفية تأثير هذا التحرك على الديناميات داخل الاتحاد الأوروبي، وهل سيدفع ذلك نحو سياسة خارجية أوروبية أكثر استقلالاً؟، يقول تميم هيكل، 'تحاول أوروبا تبني سياسة خارجية مستقلة عن الولايات المتحدة، إلا أن هذه العملية تبدو مستحيلة عملياً في الوقت الراهن. يعود ذلك إلى الترابط العميق والعلاقات المعقدة التي نشأت في النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية.'
ويضيف أن الموضوع ليس مجرد تغيير في النظام العالمي، بل هو تغير في نظم هذه الشبكة المعقدة من العلاقات الاقتصادية والثقافية والسياسية بين أوروبا وحليفها الرئيسي، الولايات المتحدة. فأوروبا الحالية هي نتاج قوة أميركا بعد الحرب العالمية الثانية.
ويذكر أن سيطرة الولايات المتحدة على الميدان العسكري بعد الحرب ومشروع مارشال، ووجود أوروبا كخط قوي ومحكم لمواجهة التحدي السوفياتي (روسيا حالياً)، إلى جانب الهيمنة الغربية التي كانت تقودها واشنطن، وكانت أوروبا الفاعل الرئيس فيها.
وبالتالي، فإن مسألة أن تكون لأوروبا سياسة خارجية مستقلة أو توجه مستقل هي المعضلة الأساسية، بحسب هيكل، لأن ذلك سيؤدي إلى تغير في النظام العالمي ككل، حتى تصبح أوروبا قادرة على اتخاذ قرارات مستقلة، وهو ما يتطلب استقلالاً عسكرياً وسياسياً. وهذا الأمر، في رأي هيكل، لا يزال مستحيلاً عملياً في الوقت الراهن.
نقطة تحول في السياسة الخارجية الفرنسية
يشكل إعلان ماكرون حول الاعتراف المشروط بدولة فلسطين نقطة تحول في السياسة الخارجية الفرنسية، ويعكس توجهاً جاداً في الموقف الفرنسي تجاه الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي. فهذه الخطوة لا تقتصر على دلالة رمزية فحسب، بل تمهد لمرحلة جديدة من الضغوط الدبلوماسية التي قد تعيد تشكيل قواعد اللعبة في المنطقة.
في نهاية المطاف، يحمل هذا الإعلان رسالة واضحة مفادها أن فرنسا تسعى إلى استعادة دورها كلاعب دولي مستقل يعيد توازن القوى في الشرق الأوسط. ومع استمرار التوترات، يبقى السؤال مطروحاً حول مدى قدرة باريس على ترجمة هذا التصريح إلى سياسة فعالة تحقق السلام المنشود، وتعيد الأمل للشعب الفلسطيني، وتضمن استقراراً إقليمياً مستداماً.