اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ٢ أيار ٢٠٢٥
يمشي بخطوة ثقيلة لكن ثابتة. ساقه الصناعية لا تخفي الوجع، كما أن وقفته لا تنفي الخسارات التي حملها جسده وروحه لتكون ضريبة لتصميمه على خدمة المواطنين.
رائد أبو الكاس، أحد موظفي بلدية غزة ويعمل تحديدا في دائرة المياه شارك أمس مع زملائه في وقفة بمناسبة يوم العمال العالمي أطلقوا خلالها 'صرخة للحياة'، من قلب أوجاعهم، مطالبين بأدنى حقوقهم: الأجور التي لا يتقاضونها ضمن تداعيات حرب الإبادة الجماعية.
لم يضربوا عن العمل، بل حضروا بالزي الرسمي، تحت شمس خماسينية حارقة، ليؤكدوا أنهم رغم الجوع والتعب ما زالوا على رأس عملهم، حتى وهم بلا رواتب فعلية تسد رمق الحياة منذ بدء الاحتلال حرب الإبادة الجماعية في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
ويفرض الاحتلال حصارا خانقا على القطاع، ويسعى إلى انهيار المؤسسات الخدمية جنبا إلى جنب العدوان العسكري المدمر للبنية التحتية وسبل الحياة كافة.
عمل تحت النار
لم يعد أبو الكاس كما كان قبل بدء العدوان، ففي أواخر العام الماضي، كان الرجل الخمسيني على رأس عمله في تشغيل آبار الصفا شرق مدينة غزة، وحين استهدفته طائرات الاحتلال، فقد ساقه اليمنى، واستشهد اثنان من زملائه، ونجا بأعجوبة من موت محقق.
لكن الأسوأ لم يكن ذلك، بل أن القصف نفسه امتد لمن حاولوا إنقاذه، ليستشهد ابنه أمام عينيه ويصاب ابنه الآخر ببتر مماثل.
يقول لـ 'فلسطين أون لاين': 'حضرت الناس تسعفني، من بينهم ابني. استشهد وهو يحاول إنقاذي. وابني الثاني بترت قدمه، زيه زيي تماما. لكني ما تركت شغلي. ركبولي طرف صناعي، ورجعت أشتغل... في الآخر، الناس بدها مية، وأنا إلي دور'.
عن واقعهم الحالي، يقول أبو الكاس بنبرة اختلط فيها الإصرار بالخذلان: 'نعمل بأيدينا فقط، بلا أدوات ولا موارد، ومع ذلك لا أحد (من المؤسسات الدولية المعنية) يلتفت إلينا أو يقدر جهودنا'.
ويضيف: 'كل ما كنا نحصل عليه أحيانا لا يتعدى سلفا نقدية أو مساعدات غذائية، أما الرواتب الفعلية فلا وجود لها، والسلف لا تكفي شيئا'.
ولطالما واجه أبو الكاس التحديات المعيشية والشخصية، وهو نازح حاليا داخل مدينة غزة بعد أن تعرض منزله لدمار جزئي: 'رغم الدمار، رفضت النزوح القسري إلى جنوب القطاع. لا نملك سوى البقاء هنا ومواصلة ما نستطيع فعله'.
وخلال الوقفة، بدا موظفو بلدية غزة في مشهد مؤلم لا يشبه مشاهد الأول من مايو التي اعتادها العالم. الوجوه شاحبة، العرق يتصبب، ليس من جهد العمل بل من ثقل المعاناة والجوع، بعد أن أغلق الاحتلال المعابر منذ 2 مارس، وتجدد العدوان الذي لم يبق من أدوات العمل شيئا، ولم يرحم حتى أرواح العاملين.
عدنان أبو عيطة، من قسم الصرف الصحي، يقول إنهم يعملون في الميدان تحت تهديد الطيران الحربي: 'نوصل المياه والخدمات وإحنا بنبقى تحت القصف'.
ويضيف لـ 'فلسطين أون لاين' بصوت يختنق بالهم: 'أولادي بيقولولي بدنا ناكل، وأنا ما بعرف شو أقولهم. مفش أكل، مفش شرب، ولا حتى سلفة نمشي حالنا. كيس الطحين بـ1200 شيقل، ولو أخدت سلفة بـ500 ما بكفيني أكمل الكيس'.
أيضا محمد أبو وردة، عامل في البلدية، يقول لصحيفة 'فلسطين'، إنهم منذ 80 يوما لم يحصلوا حتى على سلفة مالية: 'كيس الطحين مش موجود، وإن وُجد فهو مسوس وغالي جدا. الوضع مش طبيعي، حرب واحتكار وغلاء، وإحنا العمال بين النارين'.
تحد أمام البلدية
ويعمل موظفو البلدية في ظروف خارجة عن حدود الإنسانية. 50 منهم ارتقوا شهداء منذ بدء العدوان، فيما دمر الاحتلال أكثر من 80% من مركباتهم – نحو 133 آلية – وعشرات المباني البلدية بما فيها مبنى رئاسة البلدية التاريخي، الذي تحول إلى ركام، إلى جانب مركز خدمات الجمهور ومبنى الأرشيف المركزي الذي طاله الحريق وأفقد المدينة جزءا من ذاكرتها الوثائقية.
رئيس بلدية غزة، د. يحيى السراج، يقول: من التحديات أمامنا عدم قدرة البلدية على دفع رواتب العاملين، موضحا في حديث سابق مع 'فلسطين أون لاين' أنه منذ بداية العدوان لا يحصل العاملون على رواتب مناسبة وكل ما يمكن الحصول عليه مساعدات مادية وعينية ودفعات نقدية قليلة لا تفي بالغرض في ظل الغلاء الفاحش في القطاع حاليا.
ويشير السراج إلى أن عدم استقرار الموظف وعدم شعوره بالأمان ووجود بيت يؤوي أهله وأولاده لا يعطيه الدافع الكبير في العمل بأريحية والنشاط المعتاد.
لكن في غزة، لا أحد يملك ترف التوقف. حتى العامل الجريح، عليه أن يُكمل الطريق… لا من أجل راتب مفقود، بل من أجل ما تبقى من الحياة.