اخبار فلسطين
موقع كل يوم -وكـالـة مـعـا الاخـبـارية
نشر بتاريخ: ١٤ تشرين الأول ٢٠٢٥
قراءة في رواية الدكتور الروائي أحمد رفيق عوض
توفيق العيسى:
عندما اخترع الإنسان اللغة قديمًا، لم يكن يدرك أنه يبتكر وسيلةً لا للتواصل فقط، بل لخلق العوالم واستدعاء الغياب أيضًا. اللغة هنا ليست أداة قول، بل كائن حيّ، يكشف أكثر مما يُخفي، ويمنح للأشياء صوتها الخاص. من هذا المنطلق، تبدو رواية 'دابة الأرض' وكأنها اختبار لقدرة اللغة على فضح ما تراكم من صمت، وعلى كسر الحواجز بين القول والاعتراف.
تبدأ أحداث الرواية بمشهد يحمل نفسًا دراميًا مسرحيًا، في حانة تجمع رجلين لا نعرف عنهما شيئًا بعد. تحت نشوة الخمر، وفي خمارة 'أم إلياس'، يدور بينهما حديث أقرب إلى استعادة الخسارات التي تركها العمر خلفهما. يتركّز الحوار حول فكرة 'دابة الأرض' التي شغف بها أبو الناجي، وكأنها الأمل الوحيد الذي يتمسّك به وسط خراب الواقع، فيما يبدي صاحبه دهشة واستغرابًا من هذا الهوس الغريب. لكن المفارقة تتجلّى حين تخرج تلك الدابة لتفضحه أمام الناس وتخبرهم بأنه سكير. غير أن أبا الناجي لا يأبه، كأنما الفضيحة الشخصية لا تساوي شيئًا أمام فضائح كبرى صمت عنها الجميع، وعلى أحدهم أن يقولها في النهاية.
في الحديث عن دابة الأرض سرديًا، نجد أن هذه الفكرة، على الرغم من شيوعها تفسيريا ودلاليًا إيمانيًا، لم تأخذ حقها في السرد الرمزي وإعطائها أبعادًا عقلية. فمع ورود هذه الآية قرآنا في سورة النمل، ما يمنحها طابعًا يقينيًا، فقد ورد في تفسيرها كثير من الجدل، قد يكون أقربها لنا ما قاله الفخر الرازي في التفسير الكبير، عن كونها مجازًا وتأويلًا رمزيًا يدل على زمن تنحط فيه قيمة العقل البشري ليخرج حيوان يتحدث نيابة عنهم، وذهب الزمخشري تقريبًا إلى ما ذهب إليه الرازي، حيث فسرها بلاغيًا، إلا أنه رأى أنها تحتمل المعنيين.
ومع وضوح فكرة الاستخدام الرمزي لرفيق عوض، فإننا نجد أن تناوله لها ينبع من قناعتين: الأولى دينية تؤكد صدقية ظهورها، والثانية رمزية سردية درامية تذهب باتجاه النقد والفكر. فهو إذ يتفق مع صاحب التفسير الكبير في مرحلة الانحطاط العقلي، فإنه يأخذ موقفًا مغايرًا لموقف ابن خلدون، الذي رأى فيها قضية إيمانية وقفية لا مجال للعقل في تأويلها، فاكتفى بذكرها كحدث ميتافيزيقي نهائي في التاريخ الإنساني، خارج عن قوانين الاجتماع البشري التي يدرسها في مقدمته.
وقد أتاح تعدد التأويلات واختلافها المجال أمام الرواية لتتخذ من الحدث القرآني رمزًا يتجاوز المعنى المباشر إلى فضاء دلالي أوسع.
يُعدّ أبو ضرار من الأصوات السردية العربية التي تمتلك رؤية معرفية ووعيًا جماليًا يمزج بين الخيال والتاريخ والفكر. ففي كل مرة يفاجئنا أحمد رفيق عوض برمزٍ جديد، فإنه لا يستعيد الموروث كما هو، بل يُعيد صياغته ليُنتج منه تأملًا جديدًا في الواقع وتحولاته. في روايته 'بلاد البحر'، استدعى الكائن الأسطوري ليعبر الزمن حتى يصل إلى الأشرف بن قلاوون على أسوار عكا، في رحلة تمسح المكان الفلسطيني من البحر إلى البرّ، كاشفةً سرّ انقسام برطعة إلى قسمين، عبر منامة تتقاطع فيها الأسطورة مع التاريخ. هناك، يتحول الكائن الخرافي إلى بؤرة رؤية تضيء الماضي والحاضر معًا.
أما في 'دابة الأرض'، فإن الكائن الأسطوري لا يعود سفيرًا للذاكرة، بل لسانًا للأرض ذاتها؛ يخرج ليقول ما كُتم طويلاً في صدور الناس. فحين تتبدّل ملامح الأرض وتُحاصرها المستوطنات، كما في مشهد غرفة أبي الناجي في المستشفى المطلة على المستوطنة، يصبح من الطبيعي أن تتكلم الأرض عن نفسها، وأن تُصبح 'الدابة' صوتها المقموع في عالمٍ لم يعد يُصغي إلا لما هو مفجّع أو فاضح.
يشي البناء السردي في 'دابة الأرض' بتوتر داخلي بين الاسم والفعل، وكأن الرواية تقيم مفارقة أخلاقية خفية في طبقاتها العميقة. فالأسماء التي اختارها أحمد رفيق عوض لأبناء أبي الناجي تحمل في ظاهرها نَفَسًا وطنيًا مثقلًا بالدلالات الكبرى: ثورة، يافا، جنين، كفاح. غير أنّ الواقع الذي يتحرك فيه هؤلاء جميعًا ينسف هذه الرمزية، إذ لا نجد من أفعالهم ما ينهض بوزن أسمائهم سوى كفاح، الابن الأصغر، الذي يظلّ وحده متطابقًا مع معنى اسمه، وكأن الكاتب أراد به أن يكون آخر خيطٍ يربط بين الشعار والممارسة، بين الحلم والأرض.
في المقابل، لا تظهر دابة الأرض إلا مرة واحدة، في حلمٍ يراه أبو الناجي داخل السجن، غير أنّ هذا الحلم يتحول إلى مرافعة فكرية وسياسية وأخلاقية، تُعيد النظر في العلاقة بين الإنسان وخطيئته تجاه ذاته وتجاه العالم. فالراوي يجعل من هذا الحلم مساحةً للانكشاف؛ إذ تتجلى الدابة بوصفها الضمير الكوني الذي يفضح كل ما تراكم من زيف. ومن خلال مثالين متناقضين ظاهريًا — المرأة المتحوّلة والجندي الاحتلالي — يُقدّم الكاتب لوحة رمزية للانهيار الإنساني العام. المرأة التي آمنت بقدرة المختبرات على خلق البشر كما تشاء، تتلقى وسم الدابة باعتباره تاتو جديدًا، وتخرج فرِحة بما تراه زينة، او 'ختما شعبيا رائجا' في مشهدٍ ساخر يعرّي تحوّل الإدانة إلى زهوٍ اجتماعي، ويكشف عن عقلٍ جمعي يحتفي بالسقوط كأنه انتصار. أمّا الجندي الذي يكذب على الله، فيقف في الجهة الأخرى من المرآة، يحمل وسماً مختلفًا يؤدي إلى المصير ذاته. فكلاهما يُفضحان في مواجهة الذات التي تظن نفسها في مأمن من الحساب.
_ وهو امر لم يعجبني صراحة أي أنني كنت اتوقع سردا ميتفيزيقيا اشبه بميثيولوجية ورفيق عوض قادر على ذلك _
يتسع المشهد حين نعود إلى الناجي، الشخصية التي يفترض أن تمتلك سلطة ونفوذًا بحكم موقعها وعلاقاتها، لكنها تتبدّى أضعف مما تبدو. فهو أداة طيّعة في يد مائير الإسرائيلي، يتحرك بإشارة، ويُستخدم كوسيط للهيمنة لا أكثر. ومع اتساع دائرة الخراب، تتكشف هشاشته أمام أسرته، فينهار الاعتقاد بقدرته على الحماية أو التأثير. ذروة المأساة تتجلى حين يُطلب منه إقناع شقيقه كفاح بالاستسلام، فيجد نفسه بين مطرقة الولاء وسندان الدم. ومع مرور الدقائق التي منحها مايير، يتحول الجميع إلى رمادٍ واحد تحت القصف، إذ لا أحد ينجو، والسماء نفسها تبدو عاجزة عن التمييز بين الضحية والجلاد.
الفضيحة الكبرى لا تحتاج إلى دابة تخرج من الأرض لتتكلم، فالأحداث ذاتها هي من تتكلم. الزمن الفاضح لا ينتظر نبوءة كي ينكشف، والخراب الأخلاقي يتسلل في الأسماء كما في الأفعال. 'يافا' التي تآمرت على إخوتها وزوّرت أوراق الملكية بعد موت أبيها، تُحاصر اليوم بذاكرتها، ترى الأراضي تُبتلع خلف المستوطنة وتفقد آخر أوهامها بالسيطرة. فكان اكتشافها لحقيقتها أثناء ابتلاع المستوطنة للأراضي المحاذية لها. 'جنين' التي ظنّت أنها الأقوى، تغدو فريسة سهلة في محاولات 'ريتشارد' لإغوائها، بينما 'ثورة' تكتشف أن الشعارات وحدها لا تصنع واقعًا.
هكذا تنقلب العلاقات بين الإخوة إلى مرآةٍ لتمزق الوطن ذاته. الجميع يترصد للجميع، والميراث يتحول إلى ساحة حربٍ مصغّرة. الدم يختلط بالمال، والعائلة تنشطر كما انشطر المكان. في خضم هذا الانهيار الجماعي، تلوح ' دابة الأرض'من بعيد كأنها تسخر من المشهد، وقد أدت مهمتها قبل أن تظهر.