اخبار لبنان
موقع كل يوم -المرده
نشر بتاريخ: ٢٨ تموز ٢٠٢٥
كتب ناصر قنديل في 'البناء'
– بينما فرض الصعود الصيني وتعاظم القوة والحضور لروسيا الاتحادية توازنات استراتيجية هشة على الصعيد الدولي، خصوصاً في منطقتي شرق آسيا وأوروبا، وبينهما منطقة وسط آسيا، دخلت منطقة غرب آسيا التي تضم دول المشرق العربي المسماة بلاد الشام وإيران وتركيا ودول الخليج واليمن، ويفصلها عن أفريقيا البحر الأحمر، في حال حرب منذ طوفان الأقصى، ويتيح تتبع هذه الحرب ومساراتها، أن تصاعدها وحجم الجهد الحربي المبذول فيها لا يتناسبان مع حدث طوفان الأقصى كعملية عسكرية محدودة انتهت آثارها الجغرافية مع عودة مقاتلي المقاومة إلى غزة بعد ساعات على بدئها، وأصبحت قضية أسرى، بينما مثلت كفعل استراتيجي حدثاً مفصلياً استدعى التعامل معها بهذه الصفة وحشد أقصى القدرات الاسرائيلية والغربية المتاحة، بما فيها الذهاب لتفعيل الخطط الاحتياطية التي مضى على إعدادها والاستثمار فيها سنوات طوال، مثل التفجيرات والاغتيالات التي استهدفت المقاومة في لبنان وقادتها وهياكلها العسكرية والمدنية، أو الذهاب إلى تفعيل قرار الحرب المؤجلة على إيران منذ انتصار الثورة الإسلامية فيها، واستنفار كل القدرات المؤهلة للعمل في سورية من الحلفاء ولو دون تنسيق مشروع سياسي جامع بينهم لإسقاط سورية، لتعويض العجز عن تحقيق انتصار حاسم في أي من ساحات المواجهة المفتوحة، أملاً بالحصول على مفاعيل دومينو في سائر ساحات محور المقاومة.
– هذه الحرب الممتدة منذ سنتين تقريباً هي أضخم وأخطر وأكبر وأطول حروب الغرب في المنطقة، التي كانت الحسابات الاستراتيجية الأميركية تقوم على السعي لتجميدها، سواء للتفرغ لمواجهة روسيا والصين وفق الرؤية الديمقراطية، كما قال وصرح جو بايدن وكما كتب قبيل الطوفان مستشاره للأمن القومي جاك سوليفان في مقالته الشهيرة في الفورين أفيرز، او وفق الرؤية الجمهورية التي أعلن الرئيس دونالد ترامب أنها تقوم على شعار «أميركا أولاً» والخروج من الحروب للتفرغ لبناء أميركا العظيمة. وها هي أميركا تبدو عالقة في هذه الحرب، وقد رمت فيها بثقلها، لرد الاعتبار لقوة ومكانة إسرائيل القيادية في المنطقة من جهة، وإخضاع محور المقاومة وعلى رأسه القاعدة الصلبة للمحور في الجمهورية الإسلامية في ايران، لكن حصيلة هذه المنازلة بعد قرابة السنتين تقول إن النصر الحاسم المنشود لم يتحقق، فلم يسقط النظام في إيران ولم تسقط أي من قوى المقاومة في لبنان وفلسطين واليمن والعراق، ولم تتم صياغة أي اتفاق يوحي باستسلام هذه القوى، بل إن اتفاقين لوقف النار بين أميركا وكل من اليمن وإيران قد جاءا بصيغة تؤكد عدم القدرة على المجاراة في استمرار الحرب، وقبول الخروج منها دون تحقيق أي من الأهداف، بل إن الاتفاق مع اليمن كان لافتاً في انسحاب اميركا من جبهة إسناد «إسرائيل» والمنازعة على السيادة في البحر الأحمر، بينما يواصل اليمن إسناد غزة ومهاجمة «إسرائيل» والتحكم بالملاحة في البحر الأحمر.
– في لبنان وغزة حرب مستمرة على وتائر مختلفة، لكنها محكومة بعجز إسرائيلي بائن في استخدام الحرب البرية التي أظهرت ميادين القتال تفوق المقاومة فيها، بينما أظهر الاعتماد الأحادي على التفوق الجوي محدودية الأثر العسكري المرجو، وترك آثاراً سياسية وإعلامية وإنسانية تترك تداعيات تصيب صورة كيان الاحتلال ومكانته لدى النخب والرأي العام في الغرب، كما هي تداعيات حرب التجويع الإسرائيلية في غزة، بينما أصابت الآثار المدمرة لحاجة «إسرائيل» للاطمئنان الأمني وإرضاء الداخل المذعور من الفشل في الحروب، الرهانات الأميركية على استثمار الحرب في فرض تغيير سياسي في لبنان وسورية، حيث تركيا كراعٍ للنموذج السوري الجديد ومعها الحكم السوري نفسه تلحق بهما الإهانة ويصيبهما الإذلال جراء الاحتلال والتوسّع الإسرائيلي المتواصل، والاعتداء الإسرائيلي المتمادي، بما يسقط النموذج الذي كانت تريد واشنطن تعميمه لافتتاح مسار جديد في المنطقة، عنوانه أن التخلص من المقاومة يجلب الاستقرار وأن بالمستطاع بناء دولة ذات سيادة في ظل الرعاية الأميركية التي تقدم الحماية لحلفائها من خطر الاعتداء والاحتلال الإسرائيلي، وكانت التركيبة السياسية الجديدة للدولة اللبنانية التي ولدت في الحضن الأميركية أولى ضحايا هذا التحول المأمول، وبدا أن الضغط المرتجى أميركياً على «إسرائيل» مجرد وهم، رغم التحول الكبير الذي جعل «إسرائيل» محمية أميركية ضعيفة، خصوصاً بعد نتائج الحرب مع إيران، لأن واشنطن تدرك أن الضغط سوف يضعف «إسرائيل» وربما يصيب الاستقرار داخلها، بينما لا تزال قوة «إسرائيل» وتماسكها أولوية أميركا في المنطقة.
– نتج عن كل ذلك توازن استراتيجي هش، حيث لا إيران وقوى محور المقاومة في حال هجوم لكسر التوازن، ولا أميركا و»إسرائيل» تملكان القدرة على حشد المزيد من القدرات لاستئناف الهجوم، وحيث ترميم القدرات البشرية والشعبية والتسليحية لقوى المقاومة ودولها يبدو على قدم وساق، تبدو الحاجة الأميركية الإسرائيلية لسنوات لأجل ترميم الجانب الكميّ من الخسائر في البشر والقدرات العسكرية، بينما لا يبدو ترميم الإصابات التي طالت الحالة المعنوية للجبهة الداخلية والجيوش ممكناً في الأفق المرئي.
– المفاوضات صعبة ومعقدة، لأن التسويات التكتيكية ذات بعد استراتيجيّ، تفوق طاقة المتحاربين على تقديم التنازلات لإنجازها، وما هو متاح لا يتعدى هدنات ربما يمكن جعلها طويلة لكن لا يمكن تحصينها من الهشاشة، والمنطقة كما المدى الأوروبي لصعود روسيا والمدى الآسيوي لصعود الصين، على صفيح ساخن، بعدما فرضت قوى المنطقة نفسها لاعباً دولياً وشريكاً محتملاً في أي نظام عالمي جديد، بعد أن استندت على مقاسمة الغرب هذا التوازن على قواها الذاتيّة بمعزل عن مساهمات روسيا والصين.