العشائر المجنّسة تصويت بلا اندماج

كتبت لوسي بارسخيان في 'نداء الوطن': 

عكست المرحلة الأولى من الانتخابات البلدية التي جرت في منطقة جبل لبنان والمتن، مشهدية مألوفة ولكنها خطرة: ناخبون مجنّسون يُستقدمون إلى صناديق اقتراع منطقة 'جديدة المتن'، من دون معرفة بموقعها الجغرافي، ولا بوجهة أصواتهم السياسية فيها. هي مشهدية مفتوحة طبعاً على إمكانية تكرّرها في كلّ محافظة بلبنان، حيث تتنوّع أصول'مواطنين لبنانيين' شملهم مرسوم التجنيس الصادر في العام 1994، بين عشائر عربية تقيم بمعظمها في البقاع، وتركمان يتمركزون في بعلبك، وفلسطينيين في الجنوب. فيشكّل كلّ من هؤلاء وسواهم، كتلة ناخبة، تتفاوت خلفيات الأفرقاء المتنافسين ونظرتهم إليها، بين من يخشاها، ومن يريد الاستثمار بأصواتها، ومن يطالب بحقوقها.

في البقاع تحديداً، ثمّة خصوصية موازية لواقع 'العشائر المجنّسة'. فوفقاً لتقارير صحافية، تحتشد ضمن خريطة سكانية متشابكة في المحافظة 36 عشيرة عربية شملها التجنيس في العام 1994. لكن أبرزها بقاعاً عشيرتا اللويس والحروك. وفيما لا يزال المجنّسون من العشيرة الأولى يتوزّعون على عدّة بلدات ومدن بقاعية مثلهم مثل عشائر الزريقات، اللهيب، أبو عيد، الفضل، العيدين، الشقيف، الهرامشة، الزهران، الموالي، أبو جبل، النعيم، والزعبي وغيرها، اتخذت عشيرة 'الحروك'، عنواناً مستقلاً لها في بلدة 'شهابية الفاعور'، إلى جانب عناوينها الموزّعة على 18 بلدة أخرى تشارك في انتخاباتها من دون أن تكون قاطنة فيها.

تربل المتخفّفة من حمل العشائر

لم تبصر بلدة شهابية الفاعور النور بسهولة، كما أنها لم تكن هدية سياسية لعشيرة الحروك. بل ولدت نتيجة توترات تسبّبت فيها التبدّلات الديمغرافية التي عاشتها بلدة تربل المجاورة، بعدما بدأت تتلمّس 'الثقل الانتخابي' المتزايد للعشائر المجنّسة المقيمة في الشهابية، التي أُدرجت قيودها في سجلّات تربل، دون أن ترتبط فعلياً بنسيجها الاجتماعي.

في الانتخابات البلدية لعام 2010، لم يعد من الممكن تجاهل هذا الثقل. وللمرة الأولى، فُرض على لائحة توافقية في تربل، إدراج أربعة مرشحين من أبناء الشهابية، في وقت كانت المجالس البلدية في السابق محصورة بأبناء البلدة من طائفتي الكاثوليك والموارنة.

وضع المجلس المنتخب من ضمن أولويّاته حينها فصل الشهابية عن تربل، وإعطاء العشيرة فرصة تقرير مصيرها البلدي بنفسها. فتحقّق الأمر بظلّ غطاء سياسي سمح بتخطّي العراقيل الطائفية والإدارية، ودفع باتجاه تنفيذ مشروع فصل الشهابية عن بلدة تربل التي كانت خاضعة لها، بعدما قدّمت بلدية تربل مساحة مليون متر مربع من مشاعاتها لتُبنى عليها الشهابية. ولكن قيود أبناء البلدة التي تحضن أكثر من ستة آلاف مقيم من أبناء العشيرة، لم تجمع حينها سوى 1157 شخصاً.

تتخفّف تربل في معركتها الانتخابية الأولى التي تجري بعد هذا الفصل، من حمل أبناء عشيرة الحروك المجنّسين على واقعها الديمغرافي، بحيث لن يشارك في انتخاباتها الحالية سوى 12 فرداً من العشيرة، بينهم سبع نساء، يجري العمل أيضاً على نقل قيودهم إلى الشهابية. بالمقابل، لا تزال قيود أبناء العشيرة غير الواردة في سجلّات الشهابية، سواء من سكان البلدة أم خارجها، تتوزّع بين زحلة حيث يقدّر عدد الناخبين بنحو 800، وجديدة المتن حيث عدد الناخبين 900، والدلهمية حيث عدد الناخبين الذي يفوق الثلاثة آلاف لا ينتخبون سوى مخاتير للبلدة، وعميق وكفرزبد وغيرها من البلدات.

الفاعور: فئة ستنتخب وفئة احتفلت بالفوز

في المعارك المفصلية يشكّل هؤلاء كتلة 'تعويم' لفئة على أخرى، يتم استدعاؤها إلى صناديق الاقتراع بحسب الحاجة، ويلبّون الدعوة طبقاً للإغراءات المقدّمة.

وهكذا، سينقسم سكان شهابية الفاعور في الانتخابات البلدية المقبلة بالبقاع، بين فئة من أبنائها ستشارك في انتخابات قرى وبلدات بقاعية أخرى، ولن يكون لصوتها أي عنوان، وفئة أخرى احتفلت بالنصر بالتزكية، لبلديتها الناشئة.

والتزكية هي الثانية لبلدية بدأ وجودها يترسّخ فعلاً على الخريطة الإدارية اللبنانية، حتى لو تزامنت ولادتها مع ذروة الأزمات الاقتصادية والمالية التي ضربت البلاد، وأوقعتها في عجز مالي وهيكلي لا تُحسد عليه.

لم تحبط الأزمات عزيمة رئيس بلديتها غازي الشريف الذي تمّ التجديد له لنصف ولاية ثانية بالتزكية، وهو يريد كما يقول أن يستكمل المشاريع التي وضعها على سكة التنفيذ، بعدما شكّلت حركته مرآة تعكس التحوّل الاجتماعي الممكن في المجتمعات العشائرية، والقدرة على نقلها من التهميش إلى التنظيم، ومن التبعيّة إلى المبادرة.

فبرغم كلّ التحدّيات، تمكّن المجلس البلدي الأول لشهابية الفاعور من إرساء الحدّ الأدنى من البنى الأساسية التي نشأت من نقطة الصفر. صحيح أن روائح الصرف الصحي لا تزال تعبق في الأجواء، بسبب ارتباط حلّ أزمة المجارير فيها بخطة شاملة تشمل قرى البقاع الشرقي كافة، لكن في المقابل، شهدت البلدة إنجازات لافتة، من إنارة عامة تعمل على الطاقة الشمسية، إلى تنظيف وتعزيل مجرى المياه الذي كان مصدراً للروائح والمشاكل البيئية، واستقدام حاويات النفايات وناقلاتها.

أما المدرسة الرسمية التي علت أسوارها في الشهابية، فلم تفتح أبوابها العام الدراسي الجاري، ليس لغياب الإمكانيات، بل لأنها تحوّلت إلى ملجأ للنازحين من قرى الجنوب في خضمّ العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان. وهذا ما أضفى على البلدة بعداً إنسانياً جديداً، في ظلّ ما تشهده من محاولات لتحسين ظروف سكانها، ولو ببطء وبإمكانات محدودة.

يعدّد رئيس البلدية غازي شريف بعض الإنجازات من دون أن ينفي أن معظمها تحقّق بتمويل من الجهات المانحة إثر تحوّل الشهابية إلى مجتمع مضيف للنازحين السوريين. وفي جعبته مشاريع إضافية يريد إنجازها، مثل إنشاء مقرّ للمجلس البلدي، وحديقة عامة مع صالة للأفراح والأحزان، ومدرسة مهنية. لكنّ التحدّي الأكبر الذي يشغل باله، لا يتعلّق بالبنى التحتية ولا بعجز الموازنة فقط، بل بواقع تشتّت الصوت العشائري الذي يفتح الباب أمام استغلاله في بازارات انتخابية موسمية، حيث يجري التعامل مع كل صوت على أنه سلعة لها سعر، لا حق سياسي يُبنى عليه في بناء الوطن أو حتى المجتمعات المحلية.

أصوات المجنّسين تحت المجهر يوم الأحد المقبل

بين زحلة، كفرزبد، بر الياس، مجدل عنجر، قبّ الياس، عين كفرزبد، يتكرّر السؤال عن وجهة الصوت 'المجنّس' في صناديق اقتراعها التي تفتح يوم الأحد المقبل. وهذا ما يضعها تحت مجهر وسائل الإعلام التي ستكون مترقبة الأمر، وخصوصاً في قلمي المعلقة الشمالي والراسية في زحلة حيث المعركة حامية والتنافس كبير على كل صوت.

إلّا أنّ هذا لا يعني أنّ الواقع الملتبس الذي يتسبّب فيه صوت المجنّسين، محصور بالبلديات المتنوّعة بانتماءاتها السياسية والطائفية. لا بل يظهر تباينهم بحدّة كبرى مع 'أبناء البلد'، في البيئات المتجانسة، خصوصاً أنّ خطوة تجنيسهم لم تترافق بأدنى جهد من الدولة لإرساء أسس مواطنة فعلية. فلم يدمج هؤلاء في السياسات الإنمائية، ولا تأمّنت لهم البنى التحتية أو الحدّ الأدنى من الحقوق الاجتماعية، بل تُركوا ليتخبّطوا في التهميش، وهذا ما يعمّق الهوّة بينهما كلّما اقترب موعد الاستحقاقات المحلية.

في بلدة سعدنايل ذات الغالبية السنية مثلاً، يُعبّر العديد من الأهالي عن خشيتهم من تصاعد مطالب المجنّسين بالحصول على تمثيل بلدي. والخوف هنا لا ينبع فقط من الاختلاف الطبقي أو الثقافي، بل من احتمال كسر التوازنات والأعراف ولو 'غير المعلنة' في إدارة الشأن المحلي.

غير أنّ التعامل مع هذه الفئة من المجتمعات على أنها أجسام دخيلة، يرسّخ شعورها بـ 'حق خاص' يبنى على قاعدة مفادها أنه 'طالما أن لا اعتراف بنا كمواطنين متساوين بالحقوق في التمثيل، فلماذا لا نفاوض على أصواتنا كأفراد أو جماعات' وهذا ما يكرّس سلوك المقايضات في صناديق الاقتراع، ويخضع المجنّسين لزبائنية مشروطة.

تُعرض هذه الإشكالية مع انطلاق المرحلة الثالثة من الانتخابات البلدية التي ستجري في البقاع، حيث أكبر تجمعات العشائر المجنّسة، لنعيد طرح السؤال بظل عهد إصلاحي، عمّا إذا كانت الدولة أصبحت جاهزة فعلاً لتصحيح خطأ التجنيس، ليس من باب سحب الجنسية ممّن منحت إليهم، بل بجعل الجنسية جوازاً لمواطنة كاملة. فبغير ذلك كما أصبح واضحاً ستبقى شهابية الفاعور، بما ترمز إليه، عنواناً دائماً للفشل في صناعة الانتماء.