اخبار لبنان
موقع كل يوم -جنوبية
نشر بتاريخ: ١٩ أذار ٢٠٢٥
المقالة التي نشرها ديفيد وورمسر، ونقلتها إيمان شمص عبر منصة “أساس ميديا” تحت عنوان أخطر نص أميركي: بقاء لبنان رهن نهج عين دارة ١٧١١ تعكس طرحًا أيديولوجيًا متحيزًا قائمًا على قراءة تاريخية انتقائية لمعركة عين دارة (١٧١١)، حيث يتم توظيف نتائجها بطريقة تخدم رؤية سياسية محددة تهدف إلى إعادة تشكيل لبنان كـ 'أمة مسيحية إقليمية' متحالفة مع الدروز، في سياق يتماهى مع الطروحات الإسرائيلية الساعية إلى تفتيت الدول العربية على أسس طائفية وعرقية.
أولًا: تحريف تاريخ معركة عين دارة
لا شك أن معركة عين دارة شكلت نقطة تحول في تاريخ جبل لبنان، إلا أن تصويرها كصراع بين تحالف ماروني-درزي ضد العثمانيين والسنة هو قراءة مجتزأة تفتقر إلى الدقة التاريخية، إذ إن هذه المعركة كانت في جوهرها صراعًا داخليًا بين جناحي الدروز، القيسيين الذين دعموا الأمير حيدر الشهابي (بقيادة آل جنبلاط وحلفائهم)، واليمنيين الذين ناصروا الشيخ محمود هرموش (بقيادة آل أرسلان وحلفائهم). وعلى الرغم من مشاركة الموارنة في القتال إلى جانب القيسيين، فإن دورهم لم يكن المحور الأساس في الصراع، بل كان ضمن شبكة تحالفات محلية تفرضها الظروف السياسية والاجتماعية آنذاك.
المقالة التي كتبها وورمسر ليست سوى محاولة لتقديم قراءة تاريخية منحازة تخدم مشروعًا سياسيًا يرمي إلى إعادة تشكيل لبنان بما يتوافق مع المصالح الإسرائيلية
أما الادعاء بأن نتيجة المعركة كانت 'طرد النفوذ العثماني' من جبل لبنان، فهو تبسيط غير دقيق، إذ بقي الجبل تحت الحكم العثماني المباشر، وإن كان بحكم ذاتي، وذلك في إطار نظام المتصرفية الذي أقره العثمانيون لاحقًا. فالسلطة الفعلية في الجبل استمرت خاضعة لموافقة الباب العالي، ولم يكن هناك أي استقلال حقيقي عن السلطنة.
ثانيًا: تحول آل شهاب وتأثيره على بنية الإمارة
يطرح ديفيد وورمسر في مقالته أن تحول آل شهاب إلى المارونية كان نتيجة مباشرة لمعركة عين دارة، وكأنه كان تحولًا سياسيًا فوريًا لتأسيس “دولة مسيحية” في جبل لبنان، وهو ما يتعارض مع الوقائع التاريخية. إذ إن عملية التحول الديني لعدد من أمراء آل شهاب لم تحدث عام ١٧١١، بل كانت تدريجية واستمرت لعقود، وبلغت ذروتها في عهد الأمير بشير الثاني (١٧٨٨-١٨٤٠). كما أن هذا التحول لم يكن نتيجة صراع طائفي، بل كان مرتبطًا بتفاعلات معقدة مع القوى الأوروبية، وبتوازنات داخلية فرضتها طبيعة الحكم المشترك بين الموارنة والدروز، حيث بقيت الإمارة قائمة على ثنائية طائفية لم تنهَر إلا مع التدخلات الخارجية الكبرى في منتصف القرن التاسع عشر.
ثالثًا: محاولة إلغاء التعددية الطائفية والعودة إلى 'روح عين دارة'
ينطلق ديفيد وورمسر في طرحه من أن التعددية الطائفية التي تم تكريسها في الميثاق الوطني عام ١٩٤٣ هي سبب ضعف لبنان، ويقترح العودة إلى نموذج “دولة مارونية متحالفة مع الدروز” على غرار ما يزعم أنه كان قائمًا بعد معركة عين دارة. لكن هذا الطرح يتجاهل حقيقة أن نظام الحكم في جبل لبنان لم يكن يومًا قائمًا على حكم طائفة واحدة، بل كان نتيجة توافقات محلية وإقليمية تراعي التوزيع السكاني والتوازنات السياسية.
إن لبنان اليوم، في ظل الأزمات التي يمر بها، بحاجة إلى استعادة سيادته الكاملة بعيدًا عن جميع أشكال التدخلات الخارجية، سواء أكانت إسرائيلية أم إيرانية أم تركية
كما أن محاولة استبعاد المكونات الإسلامية، ولا سيما السنة والشيعة، من أي تصور مستقبلي للبنان لا تعكس سوى نزعة إقصائية تتماهى مع الطروحات الإسرائيلية التي تسعى إلى إعادة تشكيل المنطقة على أسس طائفية، بما يؤدي إلى إضعاف الدولة المركزية وتسهيل السيطرة عليها من قبل قوى خارجية.
رابعًا: التوظيف السياسي للصراعات الراهنة ومحاولة فرض رؤية إسرائيلية
تتجلى الأبعاد السياسية للمقالة بوضوح في محاولة وورمسر تصوير 'الخطر العثماني السني'، في إشارة إلى الدور التركي الحالي في المنطقة، على أنه التهديد الرئيسي للبنان، متجاهلًا العوامل الأخرى الأكثر تأثيرًا في زعزعة الاستقرار اللبناني، ومنها الاحتلال الإسرائيلي للأراضي اللبنانية، وتوظيف لبنان كساحة لصراعات إقليمية ودولية، بالإضافة إلى الدور الإيراني من خلال ذراعه السياسية والعسكرية المتمثلة في حزب الله.
أن محاولة استبعاد المكونات الإسلامية، ولا سيما السنة والشيعة، من أي تصور مستقبلي للبنان لا تعكس سوى نزعة إقصائية تتماهى مع الطروحات الإسرائيلية التي تسعى إلى إعادة تشكيل المنطقة على أسس طائفية
أما اقتراحه بأن لبنان يجب أن يتحالف مع إسرائيل باعتبارها 'مظلته الاستراتيجية'، فهو يعكس توجهًا إسرائيليًا واضحًا يسعى إلى فك ارتباط لبنان بعمقه العربي وربطه مباشرة بأجندة تل أبيب، وهو ما يتماشى مع مشاريع “الشرق الأوسط الجديد” التي تهدف إلى إعادة رسم الخرائط السياسية للمنطقة بما يخدم المصالح الإسرائيلية على حساب سيادة الدول العربية واستقرارها.
في المحصلة، المقالة التي كتبها وورمسر ليست سوى محاولة لتقديم قراءة تاريخية منحازة تخدم مشروعًا سياسيًا يرمي إلى إعادة تشكيل لبنان بما يتوافق مع المصالح الإسرائيلية. إذ يتم استغلال أحداث تاريخية مثل معركة عين دارة لإضفاء مشروعية أيديولوجية على رؤية تقسيمية تُعيد إنتاج الطروحات التي سعت منذ عقود إلى تفتيت لبنان على أسس طائفية.
إقرأ أيضا: الشرعية تنجح في امتحانها الاول: الجيش يتدخل ويحبط فتنة الحدود اللبنانية السورية
إن لبنان اليوم، في ظل الأزمات التي يمر بها، بحاجة إلى استعادة سيادته الكاملة بعيدًا عن جميع أشكال التدخلات الخارجية، سواء أكانت إسرائيلية أم إيرانية أم تركية، بدلًا من الانجرار وراء مشاريع تستهدف تحويله إلى كيان طائفي هشّ يخدم مصالح القوى الإقليمية والدولية على حساب وحدته الوطنية.