اخبار لبنان
موقع كل يوم -ام تي في
نشر بتاريخ: ٣٠ حزيران ٢٠٢٥
شجرة الجنّة أو لسان الطير التي تعرف باللغة العلمية بالإيلانتس الباسقة Ailanthus altissima شجرة جميلة بالمبدأ، تفيّء بأوراقها الكثيفة على ما حولها وتزين جوانب الطرقات والأحراج والحدائق، ويمكن أن تنمو في أي مساحة أرض قليلة التربة حتى في فجوات صغيرة وسط الإسمنت. لكن هذا الوصف الرومنسي يخفي خلفه رغبة غير مضبوطة بالانتشار العشوائي وتهديد التنوع البيولوجي، هذا عدا التسبب بأخطار كثيرة على المباني وساكنيها.
تركت السيدة خوري شقتها لأسابيع لتزور أبناءها الموزعين بين الدول العربية وذهلت بهول ما رأته عند عودتها. مصارف المياه على الشرفات اجتاحتها جذور نمت داخلها وأطلت برأسها المخيف من المصافي متسببة بإغلاق المجاري، وتجمع المياه على الشرفة. مشهد كأنه من فيلم خيال علمي زرع الخوف والقلق في نفس السيدة التي لم تجد تفسيراً لما حصل. استشارات زراعية وسمكرية كشفت اللغز: إنها جذور شجرة الإيلانتس الباسق التي نمت على طرف الحديقة وامتدت نحو الشرفة. هذه الشجرة التي تبدو بريئة عن بعد هي في الواقع نوع من الأشجار الغازية الملأى بالمخاطر.
الهيمنة
في بحث أجراه ميغيل طراد كرسالة ماجستير حول شجرة الإيلانتس الباسقة تبين له بحسب المراجع وعبر الدراسة العملية على الأرض، أنها واحدة من أسوأ أنواع النباتات الغازية في أوروبا والعديد من البلدان المتوسطية ومنها لبنان. والنباتات الغازية بتعريفها هي أنواع غير محلية يتم إدخالها إلى موقع محدد قد يكون في المدن والأماكن المأهولة أو في الغابات والأراضي البرية، فتتصرف بشكل عدواني يؤدي إلى تدمير البيئة وتغيير التنوع البيولوجي والهيمنة على الأنواع النباتية الأخرى. ويمكن للأنواع الغازية أن تطلق مركبات كيميائية تسمح لها بالتلاعب بالظروف البيئية التي يمكن أن تؤثر على الأنواع الأخرى، سواء كانت نباتية أو حيوانية، وتأتي هذه الحقائق لتضاف إلى قدرتها على الهيمنة على الأنواع النباتية الأصلية.
غالباً ما يتم إدخال الأصناف النباتية الغريبة لأسباب مختلفة، مثل الزينة أو التشجير أو تثبيت التربة. وفي لبنان حالياً ما يقارب 24 نوعاً من النباتات والأشجار الغازية، ومن بينها الإيلانتس التي يعود منشأها إلى شمال الصين، ووصلت إلى لبنان في القرن العشرين كشجرة زينة وتمكنت من الانتشار في جميع أنحاء البلاد تقريباً.
من يراقب تطور انتشار الإيلانتس يلاحظ أن بعض الأماكن مثل جوانب الطرقات او مواقف السيارت والحدائق المتروكة شهدت في السنوات الأخيرة مع الإهمال الحاصل في عمليات التشحيل اجتياحاً واسعاً لهذه الشجرة. وحتى الآن لم يصدر أي تحذير من وزارة الزراعة حول مخاطر تمدد وانتشار هذا الصنف بشكل عشوائي وفق ما عرفناه من مصدر في وزارة الزراعة.
انتشار سرطاني
سرعة انتشار شجرة الإيلانتس، تعود بحسب المهندس الزراعي ستيف سعيد إلى عدد الثمار الكبير الذي تنتجه سنوياً وقدرة بذورها المتواجدة في أزهارها على الانتقال بعيداً بواسطة الرياح. وقد تصل المسافة التي تقطعها هذه البذور إلى 100 متر بعيداً عن الشجرة الأم وقد تبلغ أحياناً 400 متر إذا كانت الرياح قوية، وإذا وجدت تربة ومصدر مياه فإنها تحتل الأرض وتتكاثر فيها بسرعة. وحين تتم محاولات نزعها من الأرض أو قطعها تنشر حولها البذور التي تتحول بسرعة إلى نباتات جديدة، لذا ينصح بتشحيلها أو قصها خارج الأوقات التي تكون فيها مزهرة واعتماد القطع في فصل الشتاء حين تكون عارية من أوراقها.
ويمكن اللجوء إلى حماية الأرض المجاورة لها عبر تغطيتها بقماش وفوقه الحصى لمنع وصول البذور وتجذر النباتات الجديدة. كما ينصح بإزالة هذه النبتات قبل أن تشتد جذورها ويصبح قلعها صعباً. يروي أحد المزارعين أنه حين حاول قطع شجرة إيلانتس كانت على طرف بستان الزيتون الذي يملكه، شهد بعد أسابيع على عملية القطع، اجتياحاً حقيقياً للبستان من النباتات الصغيرة وكأنه سرطان أخذ يتفشى في أرضه.
استئصال الشجرة من جذورها ليس بالأمر السهل لا بل في الجذور تكمن كل المشكلة، فهي وفق المهندس الزراعي تمتد عميقاً في الأرض أو بشكل أفقي خاصة إذا كانت محصورة وتربتها غير عميقة، كما هي الحال على جوانب الطرقات حيث تمتد الجذور تحت الإسفلت ويمكن أن تتسبب في تشققه، وقد تمتد إلى خطوط الصرف الصحي أو قساطل نقل المياه، وتحتلها متسببة في تسكيرها. والضرر ذاته يحدث حين تمتد الجذور تحت بلاط الشرفات أو أسس الجدران بحثاً عن مصادر مياه، وقد تصل إلى مجاري تصريف المياه في المنازل لا سيما في فصل الصيف. وقد تمت رؤية بعض الحالات التي تخرج فيها الجذور بشكل مخيف من كراسي المراحيض في الطوابق الأرضية، تماماً كما يحدث مع نبتة الـ Fucus وحينها تصبح بحاجة إلى معالجات جذرية لانتزاعها.
أما إذا كانت الشجرة قد نبتت في الطبيعة فلا ضرر يذكر منها إذا كانت بعيدة عن الأشجار المثمرة. أما في حال قربها من هذه الأشجار فإنها تتسبب بامتصاص الغذاء من التربة، وقد تحجب بسبب ارتفاعها ضوء الشمس عن الأشجار الأخرى أو المزروعات. ومع امتداد جذورها تصبح الأرض قاسية تصعب حراثتها وتجديدها وتحتاج إلى سنوات عدة من الحراثة للتخلص من الجذور.
استئصال مدروس
اقتلاع شجرة إيلانتس بالغة ليس بالأمر السهل مع امتداد جذورها عميقاً في الأرض أو تمددها أفقياً، وإذا تم قطع الشجرة، تزداد قوة مثلها مثل أشجار التين والسماق كما يقول المهندس الزراعي، لذا فإن الطريقة التي ينصح بها، هي باستخدام الأدوية السامة المبيدة للحشرات وحقنها في الجذور وحول الشجرة في فترة الربيع. لكن يستحسن عدم استخدام المواد السامة إذا كانت هذه الأشجار قريبة من أشجار مثمرة، لأن الأدوية قد تتسرب إلى التربة وتصل إلى سواها من النباتات والأشجار. ويعمل البعض من غير المحترفين إلى استخدام مادة المازوت أو الأسيد للتخلص منها، لكن هذه المواد أيضاً قد تتسرب إلى التربة وتؤذي ما حولها من نبات، أو قد تصل أيضاً إلى المياه الجوفية. وعند التخلص من الشجرة من خلال إحدى هذه الوسائل يجب التأكد من كون الجذور قد يبست تماماً، لأنها قادرة على انتاج شتول جديدة من جذورها إذا بقي فيها حياة.
وائل مصطفى المسؤول في برنامج الحفاظ على الطبيعة في جمعية الثروة الحرجية والتنمية يؤكد أن الإيلانتس بلا شك شجرة غازية Invasive تسيطر على المكان الذي تكون فيه وعلى الأشجار الأخرى، ونموها سريع جداً، بحيث بات يمكن الحديث عن اجتياحها لبعض الأحراج في المتن وكسروان والشوف. ويشكل مناخ لبنان تربة خصبة لها، ومع الوقت لا شك أنها سوف تؤثر على سواها من الأشجار لا سيما في الأحراج. ويقول مصطفى: كجمعيات نعمل على التحريج وإدارة الغابات، نخشى كثيراً من إدخال أصناف جديدة من خارج البيئة الطبيعية والمحلية، لأن أي دخيل يؤثر على النظام البيئي، وتداعياته لا بد أن تظهر يوماً بشكل أكيد.
وفي العودة إلى الدراسة الوحيدة التي أجريت في لبنان حول الإيلانتس ألتيسيما، يتبين وفق المراجع الأوروبية أن أثرها اقتصادي وبيئي على حد سواء، وإن لم يتبين بعد تأثيرها المباشر على التنوع البيئي في لبنان ربما بسبب عدم وجود دراسات كافية حول الموضوع. ولا يجب إغفال التأثير الصحي لشجرة الإيلانتس حيث يمكن أن يسبب لقاحها ردود فعل تحسسية، كما يمكن أن يسبب الاتصال المباشر بنصلها التهاب حاد في الجلد أو عضلة القلب وفق المراجع العلمية.
وزارتا الزراعة والبيئة لم تتحركا بشكل صارم حتى الآن للتحذير من هذه الأشجار الغازية وما تسببه من أضرار، وكأن لبنان بات معتاداً على إيواء أنواع غير محلية سرعان ما تتمدد وتنتشر لتهيمن على أرضه ومن عليها. فلا ينغرنّ أحد بجمال هذه الأشجار القادرة على اجتياح كافة المناطق وكفانا غزاة في لبنان.