القنب اللبناني: فرصة إنقاذ حقيقية لإقتصاد منهار

بروفسور حسان مخلوف

منذ سنوات والإنهيار المالي يفتك بلبنان بلا هوادة. فقدت الليرة أكثر من 90٪ من قيمتها، إنهار النظام المصرفي بشكل كلّي، تآكلت المؤسسات العامة، وأصبحت الخدمات الأساسية شبه معدومة. بالتوازي مع ذلك تتأرجح الحكومات المتعاقبة بين العجز والإنكار دون خطة إقتصادية فعلية، فيما يزداد اعتماد الناس على الهجرة والتحويلات الخارجية مع انسداد الأفق بشكل كامل.

لقد أثبتت الأزمة الإقتصادية هشاشة الإقتصاد الريعي الذي بُني على الخدمات والسياحة والتحويلات، دون أي استثمار جدي في الزراعة والصناعة، إذ لم تتعدَ حصة كلّ من وزارتيّ الزراعة والصناعة 1% من الموازنة العامة على مدى أكثر من عقدين، فيما حوّلت المصارف أموال المودعين إلى أدوات لتمويل الدين العام دون أن تبني الدولة أي قطاع منتج حقيقي. وعندما انهار كل شيء، لم يبقَ أمام اللبنانيين سوى البحث عن موارد محلية حقيقية يُمكن الرهان عليها.

القنب: من المحظور إلى المشروع

في نيسان 2020، أقرّ مجلس النواب اللبناني قانونًا شرّع بموجبه زراعة القنب الهندي لأغراض طبية وصناعية. وبعد أربع سنوات من المماطلة، بدأت الدولة أخيرّا بخطوات عملية لوضع القانون موضع التنفيذ من خلال إنشاء الهيئة الناظمة للقنب، وهي الجهة المسؤولة عن منح التراخيص، ومراقبة الإنتاج، وتنظيم التصنيع والتصدير.

تراهن الحكومة اللبنانية على هذا القطاع الناشئ كأحد الموارد الممكنة للنهوض الإقتصادي. ويبدو هذا الرهان منطقيًا، إذا ما نُفّذ المشروع بطريقة منظمة وشفافة تأخذ بعين الإعتبار الواقع اللبناني المتجذر وهو أن منطقة بعلبك – الهرمل تمتلك المقومات الطبيعية والبشرية لهذا النوع من الزراعة التي درج الأهالي على زراعتها وأن المنطقة تحتاج إلى فرص تنموية فعلية بدلًا من الملاحقات الأمنية والعزل الاقتصادي.

ومن المهم في هذا السياق أن نُشيد بالتوجهات الإصلاحية التي تبنّتها الحكومة اللبنانية الجديدة، التي تشكّلت قبل ستة أشهر عقب انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وهي حكومة بدأت فعليًا بخطوات جديّة على مستوى الإصلاح الإداري، ولا سيما في مجال تفعيل الهيئات الناظمة، وتنقية الإدارة من الفساد، وتسهيل المسار القانوني والمؤسساتي لمشاريع تنموية كبرى – وفي مقدّمتها مشروع تشريع القُنب. هذه الإرادة السياسية المستجدة تفتح نافذة أمل طال انتظارها، وتستحق كل الدعم والتشجيع من المواطنين والمجتمع المدني والقطاع الخاص.

بعلبك – الهرمل: قلب القنب النابض

تشير التقديرات الميدانية إلى أن زراعة القنب غير الشرعية في منطقة بعلبك – الهرمل، وما يرتبط بها من عمليات تحويل وتصنيع تقليدية (إنتاج الحشيش)، تُدرّ على المنطقة كتلة مالية سنوية تقدّر بحوالي 700 مليون دولار. هذه الكتلة تُشكّل العمود الفقري للإقتصاد المحلّي في منطقة تُعاني من الإقصاء التنموي.

إن مشروع التقنين الرسمي لا يمكن أن ينجح دون الحفاظ على هذه الكتلة المالية، بل وزيادتها تدريجيًا، لضمان الإنخراط الكامل من قِبل المزارعين. وهنا تكمن أهمية التصميم السليم للمشروع، بحيث لا يُنقل القنب من أيدي المزارعين إلى الشركات الكبرى، بل يُبنى القطاع على شراكة فعلية معهم، تُحترم فيها خبرتهم، وتُؤمَّن لهم شروط عادلة وضمانات إقتصادية مستدامة.

التصنيع والتصدير: العائدات ممكنة وتتخطى 5 مليارات دولار سنويًا

لبنان لا يملك فقط القنب، بل يملك واحدًا من أجود أصناف القنب عالميًا من حيث نسبة المادة الفعالة وجودة الراتنج (Resin). وتُظهر تجارب دول عدة – مثل كندا، ألمانيا، أوروغواي، وجنوب إفريقيا – أن الصناعة القائمة على القنب الطبي والترفيهي باتت من أسرع الصناعات نموًا في العالم، وأن الأسواق العالمية مفتوحة أمام التصدير المنظّم من دول تمتلك شروط الجودة.

من هنا، يمكن للبنان أن:

ينتج زيوت طبية مركزة تستعمل في الصناعات الدوائية والتجميلية.

ب - يصنّع ماريجوانا طبية وترفيهية (بمواصفات قانونية خاضعة للرقابة) ويُصدّرها إلى دول شرّعت استهلاكها.

ج - ينتج نحو ملياري سيجارة ماريجوانا سنويًا توضب في عبوات وتُباع بما بين 10 و15 دولارًا للعلبة الواحدة في أسواق مرخصة.

د - يحوّل بقايا النبتة إلى مواد غذائية، علف حيواني، ألياف صناعية، مواد بناء، أو وقود حيوي.

وبهذا وعند وضع إطار متكامل للمشروع ، يُمكن للبنان أن يُحقّق أكثر من 5 مليارات دولار سنويًا من العائدات خلال خمس سنوات، أي ما يعادل ضعف ما قد يأتي من استخراج الغاز في مراحله الأولى، مما يُعطي دفعة قوية للميزان التجاري، ويوفّر العملة الصعبة، ويساعد في استقرار الإقتصاد المحلي.

أسس النجاح: التنظيم والعدالة

يستند نجاح هذا المشروع إلى توفر شروط لا بد منها:

أ - هيئة ناظمة مستقلة وفعالة، لا تخضع للمحاصصة، وتعمل بشفافية تامة.

ب - نظام تراخيص واضح وعادل يشمل المزارعين التقليديين ويمنع الإحتكار.

ج - تسعير تشجيعي للمزارعين يضمن لهم أرباحًا مجزية ويمنع عودتهم للسوق السوداء.

د - تشجيع الإستثمار الصناعي المحلي والمغترب، في إطار بيئة ضريبية وبنيوية سليمة.

هـ - إدارة تصديرية مهنية تتولى عقد الإتفاقات القانونية مع دول العالم.

بين التاريخ والمستقبل: القنب هو المشروع الوطني الممكن

إن تحرير قطاع القنب من الوصمة المرتبطة بالمخدرات وتحويله إلى قطاع منتج شرعي هو فعل سياسي وإقتصادي ووطني بإمتياز. إنه استثمار في أرضٍ صالحة، وخبرة متجذّرة، وفرصة قائمة. وهو أيضًا تحوّل من إقتصاد الظل إلى إقتصاد القانون.

لن يكون هذا المشروع سهلاً، ولن يخلو من التّحديات، لكن لا خيار آخر. لبنان بحاجة إلى قطاع يولّد النقد، ويُعيد تحريك الأرياف، ويمنح الشباب والمزارعين فرصة العيش الكريم في أرضهم.

والقنب اللبناني، إذا ما أُدير بحكمة، هو تلك الفرصة النادرة – وربما الأخيرة – قبل السقوط الكامل.

أستاذ جامعي، وباحث في زراعة القنب