اخبار لبنان
موقع كل يوم -الميادين
نشر بتاريخ: ٥ أذار ٢٠٢٤
أحاديث مقهى الرصيف في رفح: لا يرفع حزن الخيام غير صُنع المقاومة
يطول الحديث عن رفح والحياة غير المألوفة فيها، حيث تمتلئ المدينة بخيم النازحين، وبقصص صمودهم وقدرتهم على تجاوز الصعاب واللا معقول، لكنّ ما بدا مألوفاً عند شعبنا لم تبدّله الحرب، يتمسّك الناس ببعضهم البعض، يختارون الحياة معاً، ويفضلون الشهادة معاً.
خلف شاشة التلفاز يتجمّع الناس هنا، جنباً إلى حنب في مكان ضيق هو في الأصل رصيف، يقع على بعد عدّة أمتار من دوار النجمة في مدينة رفح جنوبي قطاع غزة.
هذه المنطقة التي تكدّس فيها النازحون من مختلف مدن القطاع بعدما دمّر القصف الإسرائيلي والأحزمة النارية منازلهم. عند ذاك الرصيف، قرّر أبو مصطفى، وهو أحد النازحيين، أن يفتتح مقهىً صغيراً يقدم للناس مشروبات محدودة وبسيطة، إذ لا يوجد على لائحة الكُشك سوى الشاي والقهوة، يجهزهما على بسطة صغيرة.
يقصد الناس في رفح المقهى هرباً من ظروفٍ شدّد العدوان والحصار الإسرائيليين قسوتها. تسرد أعين زبائن أبو مصطفى حكاياتهم في الحرب: تعب من أسواق خلت من حاجات أساسية، عجز عن تأمين قوت اليوم لأطفال مسّهم الجوع، بحث عمّن تبقى من أحبة وجيرانٍ شرّدهم عدوان الاحتلال. لكن شيئاً واحداً يقلب مزاج الناس، صُنع المقاومة.
جلس إلى جانبي شابيّن حين كنت في المقهى ذات مرّة أتابع الأخبار، عرضت حينها المقاومة مشاهد لقنصها جندياً إسرائيلياً. عجيبة هذه اللقطات كيف تعيد رسم ملامح الأمل والسعادة على وجوهٍ غيّرها القتل والدمار والفقد.
قال الشاب لرفيقه: 'شوف الجندي كيف ارتمى زي الخروف'، لفت التشبيه صديقه الذي نظر وابتسم لما صنعته المقاومة، مستكملاً تناول ساندويش احتوى على بعض شرائح من البطاطا المقلية بزيتٍ قد أعيد استخدامه مرات عديدة بسبب غلاء سعره وندرته في السوق. إلى الأمام من الشابين، اجتمع كبار السن يتحدثون ويتناقشون متابعين ما يقوله مذيع النشرة، عندما أذاع المقدم خبراً مفاده بأنّ الإدارة الأميركية 'متفائلة' بشأن التوصّل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار قريباً، رفع رجل كبير، غارت التجاعيد على جبهته من تعب الحرب، صوته وقال: 'ملعون أبوها أميركا، ما إنتو سبب البلا'، قطع قصف غادر على خيمة للنازحين قرب مستشفى صوت المسنّ، وشتم هو ومن كانوا حوله أميركا وأتباعها من أنظمة العرب.
هذه هي الصورة المعتادة في رفح منذ حوالى 5 أشهر، أناس يتجمعون حول بعضهم البعض في حلقات دائرية، ويقضون ساعات نهارهم بحثاً عن بصيص أمل.
مرّت هذه المُدّة وأنا أحاول إجابة نفسي عن سؤال واحد: كيف يتحمّل الناس كلّ هذا الوجع؟ ترى في منطقة النزوح مشاهد يصعب تصديق أنها ليست خيالاً أو كابوساً، بل واقع يعيشه الناس فعلاً.
يتمشي شاب بلباسٍ أخضر، مثقل الخطى، يرتدي زيّ الممرضين، يرفع كيساً مما توفر من مواد تموينية يحمله على كتفه، ولا يحتوي هذا الكيس غالباً إلا على معلبات وقليل من الخضار، في اليد اليمنى يحمل الشاب 'غالون' مياه، كان واضحاً من مشيه أنّ الحِمل ثقيلاً، وأجزم أنه حمل هذا الثقل لمسافة طويلة. تختصر صورة الشاب ما سبّبه الإجرام الإسرائيلي الذي يلعنه الناس ويلعنون الصامتين عن غزّة.