اخبار لبنان
موقع كل يوم -الميادين
نشر بتاريخ: ٢٩ أذار ٢٠٢٤
أهالي غزة يعيدون تسوية أراضيهم لزراعتها.. لأنّ 'الحياة فيها عبادة'
قبل شهرين، ترك جيش الاحتلال سلة شمال قطاع غزة الزراعية، عقب توغل بري استمر ثلاثة شهور، ولم يبق فيها أرضاً واحدة لم تنل منها جرافاته، أما المنازل، فقد دمر أكثر من ثلثيها.
يتباهى سكان بلدة بيت لاهيا في شمال قطاع غزة دائماً بأنهم أفضل من زرع وأنتج الثمار والخضروات، المدينة الزراعية التي تحاذي السياج الفاصل أقصى شمال قطاع غزة، عرفت تاريخياً بأن سكانها الأكثر إبداعاً في انتاج كافة أنواع الخضار والفواكهة الموسمية، وفوقاً منها الفراولة، أو 'الفريز' أو التوت الأرضي باللهجة اللهوانية المحلية.
في شارع العطاطرة مثلاً، حيث تنتشر محلات بيع الأسمدة والبذور والأدوية الزراعية، ستجد أن أحدهم يعلق على الجدار، شهادة تقدير حصل عليها في العام 1995 لأنه فاز حينها بإنتاج أفضل فراولة على مستوى قطاع غزة والبلاد المحتلة، وسيزهو ثانٍ بأنه ملك البندورة، وثالث بأنه سيد البصل والثوم، أما المنازل هناك، فتروي مداخلها التي تزينها الأزهار النادرة وأشجار الظل الكبيرة، ونباتات الياسمين، حكاية الغرام بالزراعة، تلك التي تتوارثها الأجيال كابراً عن كابر.
قبل شهرين، ترك جيش الاحتلال سلة الشمال الزراعية، عقب توغل بري استمر ثلاثة شهور، ولم يبق فيها أرضاً واحدة لم تنل منها جرافاته، أما المنازل، فقد دمر أكثر من ثلثيها، يمكن القول، إن ملامح البلدة، أسوة بكل شمال القطاع، قد طمست تماماً، وحدها طباع الناس وما عشقوا، هي التي لم تغيرها أطنان القذائف.
في شارع البذور والأشتال، التقى الميادين نت أبو عدنان، وهو شيخ لا تنبؤ بنيته الجسدية القوية بأنه تجاوز السبعين بثلاثة أعوام، باحثاً عن أشتال البندورة والجرجير والملوخية، إذ بدأ منذ أسابيع في تسوية أرضه من مسار الجرافات، تمهيداً لإعادة زراعتها، يقول للميادين نت: 'نظفت 700 متر وردمت الحفر إلي عملتها الجرافات، وحرثتها، والآن رح أزرعها، يومياً بيصير قصف، وارد جداً نزرع وما يكون في العمر وقت إنو ناكل من حصادنا، الموضوع مش مادي، صحيح المجاعة والشح دفعتني أسرع، وأبذل جهد عضلي بحاجة لآليات وحراثات حتى تنجزه، لكن والله، أنا بزرع لأنوا معروف في كل الحضارات البشرية، إنو الزراعة إشارة الاستقرار والبقاء، والخيمة رمز النزوح والرحيل (..)، أنا بزرع أرضي حتى تفهم الطيارة الإسرائيلية إلي بتراقبنا، إنو هذه الأرض الحياة فيها عبادة، وحتى الموت فيها سعادة'.
أما في حي تل الزعتر، يكرر أبو ياسر أحمد المشهد اللهواني، هناك، حيث تضيق الأراضي وتتراص المنازل المقصوفة، انهمك الرجل الذي نالت الحرب من ابنته الوسطى وشقيقه الأكبر، في تنظيف سطح منزله من ركام القصف، يقول للميادين نت: 'من يوم ما انسحب الجيش من الحي، في منتصف شهر كانون الأول/ديسمبر، دفنت أخوية أبو محمد، ونظفت غرفة وحدة في بيتنا المدمر حتى أسكن فيها، وبلشت أنظف في السطح، من أعمدة الأسمنت إلي تطايرت من منازل الجيران إلي نسوفها، والحجارة وبقايا قذائف، أمضيت شهر كامل لحد ما خلصت تنظيف، وزرعت كل الخضار الرمضانية، والحمدلله، أكلت وأطعمت جيراني'.
خلال اللقاء، لم تفارق الابتسامة وجه الرجل المعروف في الحي بعشقه للزراعة، لقد سمى بناته الخمسة بأسماء نباتات وورود، استشهدت نسرين، وبقي لديه سوسن وكميليا وأزهار وداليا، لقد اختلق للعشرات من نباتات الزينة والظل مكاناً بين الدمار، يتابع حديثه: 'من يوم ما زرعت السطح، صار فيه معادل موضعي في حياتي للقصف والدم والمجازر، أكثر الناس كان برأيهم إنو مش وقته، بدري، انتظر لما تخلص الحرب، لكن بالنسبة إلي، الخضار حياة، ومراقبة نمو النباتات ورعايتها يوم يوم، كان أفضل مبرر دفعني أتمسك في العيش في بيت مدمر وحي خطير بيتعرض يومياً للقصف'.