صوت الضعفاء هل هو مسؤولية الإعلام أم برمجة الخوارزميات؟

كتبت الدكتورة فيولا مخزوم مقالا تحت عنوان “صوت الضعفاء هل هو مسؤولية الإعلام أم برمجة الخوارزميات؟”، اعتبرت فيه ان الصحفي لم يعد هو من يقرر ما يُنشر وما يُهمَل، بل صارت الخوارزميات هي الحارس الخفيّ على بوابة الرأي العام، وجاء في المقال:

في زمنٍ تتسارع فيه الخوارزميات وتغزو التقنية كل زاوية في حياتنا، يبدو أن صوت الضعفاء يخفت أكثر فأكثر. أولئك الذين لا تملك صورهم بريق الانتشار، ولا تصنع قصصهم التفاعل المطلوب على شاشات الإعجاب، يجدون أنفسهم خارج معادلة الذكاء الاصطناعي الذي يُحدّد من يُرى ومن يُنسى. في عالمٍ مبرمج على قياس السرعة والمشاهدات، يصبح الألم الإنساني مادة غير مربحة، والسكوت عنه خيارًا تكنولوجيًا أكثر منه إعلاميًا.

لقد تغيّر وجه الإعلام مع الذكاء الاصطناعي. لم يعد الصحفي هو من يقرر ما يُنشر وما يُهمَل، بل صارت الخوارزميات هي الحارس الخفيّ على بوابة الرأي العام. هي من ترفع قصة وتُسقط أخرى، وفق معادلات لا تعرف الرحمة ولا تفهم الوجع. وقد تبدو هذه التقنيات محايدة في ظاهرها، لكنها في عمقها تُعيد إنتاج التحيّز البشري بطريقة أكثر هدوءًا وأشد تأثيرًا. فحين يُغذّى الذكاء الاصطناعي ببياناتٍ من عالمٍ ظالم، فإنه يتعلّم الظلم بوصفه منطقًا طبيعيًا، ويعيد توزيعه على الجميع ببرودٍ مبرمج.

أمام هذا المشهد، يقف الإعلام أمام امتحانٍ أخلاقي عسير. فهل يكتفي بأن يكون مستخدمًا لتلك الأدوات الذكية؟ أم يتحمّل مسؤوليته التاريخية كصوتٍ لمن لا صوت لهم؟ الإعلام، حين يخضع كليًا لمنطق المنصّات والخوارزميات، يتخلى عن جوهره الإنساني، ويصبح تابعًا لآلة لا تفرّق بين صرخة جائع ومقطعٍ راقص. إن مهمة الإعلام ليست أن يلاحق ما يُراد له أن يُقال، بل أن يُعيد التوازن إلى ساحةٍ صارت تُدار بالمعادلات لا بالمبادئ.

إنّ أخطر ما في الذكاء الاصطناعي ليس أنه يسلب الإنسان بعض أدواره، بل أنه يسلبه إنسانيته حين يطبع اللامبالاة في سلوك المؤسّسات الإعلامية. فالآلة لا تعرف كيف تبكي، ولا تفهم معنى الكرامة، ولا تدرك كيف يختنق اللاجئ حين يُحذف اسمه من قوائم الاهتمام العام. ومن هنا تأتي الحاجة إلى إعلامٍ يملك الشجاعة ليقف ضد برمجةٍ لا ترى الإنسان، وليفرض على الذكاء الاصطناعي أن يتعلّم التعاطف كما يتعلم التحليل.

علمًا، أنّ المسؤولية اليوم لا تقع على الخوارزميات وحدها، بل على من صمّمها ومن يوجّهها ومن يستخدمها. فالصحفي الذي يستسلم لخوارزميات النشر السريع يشارك – ولو من غير قصد – في إخماد أصوات الضعفاء. أما الإعلامي الذي يصرّ على أن يروي القصص التي لا تُروى، فهو يمارس أسمى أشكال المقاومة الإنسانية في عصرٍ رقمي متبلّد. فالقضية لم تعد تقنية فحسب، بل أخلاقية قبل كل شيء.

إنّ الذكاء الاصطناعي، مهما بلغت قدراته، يبقى انعكاسًا للإنسان الذي صنعه. فإن غابت القيم، تحوّل إلى آلةٍ تنشر اللاعدالة بذكاءٍ مدهش، وإن حُملت فيه مبادئ العدالة والرحمة، صار وسيلة لإنقاذ ما تبقّى من صوت الإنسان. لهذا يجب أن يبقى الإعلام ضميرًا حيًا لا يُبرمج، وأن يذكّر العالم أن البيانات بلا روح لا تصنع مستقبلًا يستحقنا.

في النهاية، لا يكفي أن نسأل مَن المسؤول: أهو الإعلام أم الخوارزميات؟ بل علينا أن نسأل أنفسنا أيضًا: أيّ إنسان نريد أن يكون في قلب هذه المعادلة؟ فصوت الضعفاء لا يحتاج إلى مَن يكرّره، بل إلى مَن يسمعه بصدق، ويجعل من التقنية وسيلةً لرفع شأنه، لا لطمسه في ضجيج الذكاء الاصطناعي.