اخبار لبنان
موقع كل يوم -نداء الوطن
نشر بتاريخ: ١٦ نيسان ٢٠٢٥
قبيل وصولنا إلى مكتب النائب وليد البعريني قرب دوّار العبدة على مدخل محافظة عكار، كنّا نعتقد أننا سنجده مطوّقاً بحشود تحمل البيض والطماطم لرشقها على سياراته ومكتبه، غداة الموقف الذي أعلنه بتأييد التطبيع مع إسرائيل مقابل شروط محددة.
بيد أننا لم نجد أي ملامح غضب. زحمة سيارات قرب المبنى، وفي الداخل ازدحام بشري أكبر ملأ أرجاء الصالون والمكتب الذي تتصدّره سورة الصمد، ونسخة مُزخرفة من القرآن الكريم، وسيف تقليدي يرقد في جرابه في رمزية هوياتية مكثّفة تمزج بين الإطارين العشائري والريفي وتقاليدهما الجَهَوية. جموع من مختلف الأعمار والمجالات المهنية، رجال ونساء، يتأبّطون مطالبهم الخاصة، ويتوسّمون في 'الحاج وليد' حلّها.
فالنائب بالنسبة إلى أغلب أهل عكار وسنّة الشمال هو قناة الاتصال مع 'الباب العالي' ومؤسسات الدولة. بمعنى أدق واسطة العقد الاجتماعي بينهم وبين الدولة. لذلك، تتحكّم العلاقة الشخصية على مستوى الأفراد والعوائل ومدى القدرة على تقديم خدمات في خيارات الناخبين ضمن محافظة تقرّ البيانات الإحصائية بأنها الأكثر تهميشاً. وهذا بالضبط ما برع به آل البعريني، عبر الوالد 'الحاج وجيه'، وأكثر منه 'الحاج وليد' كما يخاطبه الناس.
غداة اغتيال الرئيس رفيق الحريري واندحار الوصاية السورية، خرج 'الحاج وجيه' من البرلمان، ومال الظن إلى أن الخروج سيكون نهائياً مع تبدّل المزاج الشعبي واعتباره أحد رموز تلك الوصاية في عكار. ومع ذلك استمر 'الحاج وليد' في قيادة النموذج الذي يشكله والده من زعامة محلية على تماس مباشر مع قضايا الناس البسيطة منها والمعقّدة، رغم تطويقه من قبل النفوذ الحريري. ونجح في مراكمة رصيد جعله الخرق المؤكد في الإحصاءات التي أجراها 'تيار المستقبل' قبيل انتخابات 2018، حسبما كشف نائب مستقبلي سابق عمل على إقناع الرئيس سعد الحريري بالتحالف مع البعريني الابن.
زلزال 'الخزّان' الشمالي
ما سبق، يشكل مدخلاً ضرورياً لفهم الخلفيات التي انطلق منها النائب البعريني في مواقفه الجريئة، مستنداً إلى قاعدة شعبية ترتبط به ارتباطاً وثيقاً، ما جعله المُعبّر عن 'متغيّرات' البوصلة السنّية. من الاعتراض الصاخب على القواعد التي اعتمدها الرئيس نواف سلام لتأليف حكومته في عزّ موجة الزخم الشعبي والدعم الخارجي له، إلى كسر حُرُمٍ إسلامي عريق بطرحه فكرة 'الفيدرالية'، وصولاً إلى القنبلة التي فجّرها بتخطيط مسبق بإعلانه تأييد التطبيع مع إسرائيل إذا كان يسهم في حماية الدولة ويخلّصها من العنتريات ويحفظ دماء المدنيين.
يكتسب هذا الموقف فرادته لكونه صادراً عن نائب مسلم سنّي يمثّل قاعدة شعبية محافظة تشكَّل وعيها على القضية الفلسطينية، فوقفت خلف مظلومية الشعب الفلسطيني من منطلقات إسلامية وعروبية وإنسانية، ولا تزال مساجدها قاطبة تصدح بالدعاء بالنصر والتمكين لأهل غزة، و'الحاج وليد' وجمْعه 'يُؤمّنون'. كما أنه ليس تفصيلاً أبداً صدور موقف يحمل طابعاً 'زلزالياً' عن نائب من أقصى الشمال حيث 'خزّان السنّة والجيش'، المتاخم لسوريا بهويتها الجديدة، والذي لطالما اتّهم بـ 'التطبيع' مع الإرهاب على اختلاف جماعاته، وبهذه الذريعة سيق شبابه إلى السجون، الأمر الذي يجعل دويّه أعلى ويكسبه بعداً استراتيجياً لا يمكن إغفاله.
خرق البعريني حظراً مديداً من دون أن يلقى رفضاً عريضاً، بما يعكس حجم التحولات التي يعيشها الشارع السنّي، وتقديمه الهوية الوطنية التي لطالما كانت محل جدل تاريخي أساسه 'خطيئة سايكس – بيكو'، ومعها الأولويات الاجتماعية والمعيشية، على حساب شعارات طنّانة تتستّر خلفها مشاريع حكم وتسلّط غابرة ومعاصرة. فإذا كان نتنياهو يتبنّى مفهوم أن 'ما لم تحقّقه بالقوّة يمكن أن تحقّقه بالمزيد من القوّة'، فإن المشروع الإيراني التوسّعي ووكلاءه يعتمدون مفهوماً موازياً لا يقل كارثية عنه: 'ما لم تحقّقه بالدماء يمكن أن تحقّقه بالمزيد من الدماء'.
أولويات 'العصب السنّي'
هكذا ، تحوّلت الشعوب والمجتمعات في لبنان وسوريا وفلسطين إلى مِرجل للدماء لا ينضب، وصار الناس مجرّد أرقام تُضاف إلى سجلات الموت المفتوحة، فيتمّ توظيفها من أجل فرض حُرُمٍ على أي فكرة عقلانية، ولو كان أساسها قيم إسلامية راسخة مثل أولوية حقن الدماء، وحُرمة رمي النفس إلى التهْلُكة.
هذه القيم تشكل جزءاً من المنطلقات التي بنى عليها البعريني موقفه لفتح كوّة في جدار كان صَلداً، رامياً عبر مواقفه المتدرّجة إلى تسليط الأضواء على مدى انفتاح 'العصب السني' على أيّة حلول تندرج ضمن مشروع بناء دولتي جدّي. اللافت أنه أثناء بضع ساعات أمضيناها وسط جموع الناس في مكتبه، لم نلمس وجود تأثير سلبي للقنبلة التي فجّرها، لا بل إن مجموعة من الأساتذة عبروا عن تأييدهم لموقفه الذي شرحه بعبارات بسيطة لا تخرج عن إطار حفظ دماء المدنيين في ظل التفاوت الصارخ في موازين القوى.
في حين أسرّ بعض العاملين معه بأن حجم الحشود، والتي قدمت من الجرد والساحل والسهل وجبل أكروم، وحتى من البقاع، يفوق المرّات السابقة، وهذا ما أكده بنفسه. عشرات الطلبات في دوائر القضاء والأسلاك الأمنية والجامعة اللبنانية والقطاعات التربوية والصحية والاجتماعية، والتي تفرض عليه إنشاء شبكة علاقات هائلة، وتحديثها باستمرار، واتصالات لا تنقطع عبر هاتفين وأكثر، حيث قلّما يمكن العثور على صورة له بلا هاتف على أذنه، بالإضافة إلى مجموعة من المتخصّصين في مكتبه لمتابعة هذه القضايا حسب مجالاتها.
تشير المعلومات إلى أن البعريني تلقى العديد من الاتصالات من شخصيات ومراجع سياسية ودينية، لم يرفض أحد فيها ما قاله أو يزأر غضباً، إنما كانت حافلة بالاستفسار عن الدوافع والخلفيات، بل إن بعض المتصلين مدحوا جرأته. كما لم يُرصد على الأرض أي ردود فعل استنكارية، ما خلا حفنة لافتات علقها 'حزب التحرير' الإسلامي المحدود التأثير.
الرسالة وصلت
ما قاله البعريني فتح الباب أمام نقاشات ساخنة حول مسألة التطبيع، ظهر فيها نوع من القبول الضمني. وهذا ما استفزّ 'حزب الله' وحلفاءه الممانعين، ومعهم 'حركة حماس'، و'الجماعة الإسلامية' التي تحظى بحضور مؤثّر في عكار، ودفعهم إلى شن هجمة مرتدة عبر ميادين التواصل الاجتماعي ركّزت على التنمّر من شخص البعريني وتحصيله العلمي، بقصد التشويش على موقفه دون النقاش في حيثياته ولا الرسالة التي يتوخى إيصالها.
ودخلت على الخط مجموعة من النخب العكارية لدوافع مختلفة، تنطلق من معارضتها للنموذج الذي يشكله البعريني وسائر النواب السنة، والذي، بحسب رأيها، يسهم في تعزيز صورة الريف المحدود التعليم والكفاءة، ويتناقض مع ما تختزنه المحافظة من كفاءات.
من الواضح أن موقف البعريني وطريقة تفاعل السنّة معه، أشعرا جماعات الممانعة وحلفائها الإسلاميين بتهديد وجودي في شارع يُظهر تبدّلاً في أولوياته، لذلك راحت تُكثّف تحركاتها من تظاهرات ووقفات احتجاجية في طرابلس وعكار وما بينهما، بما يفوق مجموع كل التجمعات منذ 'طوفان الأقصى'، في موازاة حراك سياسي واجتماعي لاستنهاض 'الحميّة' الإسلامية عبر خطاب يستخدم عصبية دينية مركّزة تنزع السياق السياسي عن 'حرب غزة' وتسبغ عليها هالة مُكّثفة من القداسة.
ومع ذلك، فإن حجم المشاركين في هذه التحرّكات على اختلاف رعاتها يتساوق مع الحشد الذي أمّ مكتب 'الحاج وليد' خلال يوم واحد فقط. وهنا بالضبط يبرز العمق الاستراتيجي في الرسالة التي وصلت إلى الدوائر المرسلة إليها.