اخبار لبنان
موقع كل يوم -وزارة الإعلام اللبنانية
نشر بتاريخ: ١٢ أيلول ٢٠٢٥
كتبت الدكتورة فيولا مخزوم مقالا تحت عنوان “حرب المعلومات في عصر الذكاء الاصطناعي”، تناولت فيه دور الذكاء الاصطناعي كسلاح استراتيجي قادر على تشكيل الرأي العام والتحكم في السلوكيات الفردية والجماعية، جاء فيه:
في عصر الذكاء الاصطناعي، لم تعد المعلومات مجرد أداة لنقل المعرفة، بل أصبحت سلاحًا استراتيجيًا قادرًا على تشكيل الرأي العام والتحكم في السلوكيات الفردية والجماعية. مع انتشار الخوارزميات الذكية والتقنيات المتقدمة، أصبح بإمكان أي جهة—سواء كانت حكومية أو غير حكومية—إطلاق موجات من المعلومات المضللة المصممة بدقة للتأثير على المجتمعات، مما يجعل كل فرد معرضًا للوقوع تحت تأثير هذه الحرب الرقمية.
كما أنّ الذكاء الاصطناعي سمح بتطوير أدوات يمكنها إنتاج محتوى زائف يبدو حقيقيًا، مثل الصور والفيديوهات المزيفة (Deepfake) والنصوص التي تحاكي أسلوب المصادر الرسمية. علاوة على ذلك، يمكن لهذه التقنيات تحليل سلوكيات المستخدمين على الإنترنت واستهدافهم برسائل متخصصة تتوافق مع ميولهم النفسية والاجتماعية، وهو ما يزيد من قوة التأثير على كل شخص على حدة. ليس هذا فحسب، بل أصبح من الممكن استخدام الذكاء الاصطناعي لإنشاء شبكات حسابات وهمية (Bots) قادرة على نشر المحتوى بشكل واسع ومنهجي، ما يجعل عملية التحقق من المعلومات أمرًا معقدًا وصعبًا.
وعليه، تتعدى آثار حرب المعلومات الفرد لتصل إلى المجتمع والمؤسّسات بشكل شامل. على المستوى الاجتماعي، تؤدي المعلومات المضللة إلى فقدان الثقة بين الناس، وزيادة الانقسامات، وارتفاع مستويات القلق وعدم اليقين. على المستوى المؤسّسي، تواجه الحكومات والشركات تحديات كبيرة في حماية بياناتها، وإدارة سمعتها، وضمان استقرار العمليات الداخلية والخارجية. على سبيل المثال، يمكن لشائعات مالية أن تؤدي إلى هز الأسواق، أو أن تؤثر معلومات مزيفة على قرارات استثمارية مهمة، أو حتى أن تعرقل حملات الصحة العامة.
أما على المستوى النفسي، فإن التعرض المستمر لموجات التضليل يزيد من التوتر والضغط النفسي، ويجعل الأفراد أكثر عرضة للقرارات العاطفية وغير المبنية على وعي حقيقي. كما يخلق الاعتماد المتزايد على منصات الذكاء الاصطناعي لتلقي الأخبار خطر 'فقاعات التصفية'، حيث يرى كل فرد فقط ما يتوافق مع معتقداته السابقة، ما يقوض قدرة المجتمع على الحوار وتبادل الأفكار بشكل حر ونقدي.
ولمواجهة هذه الظاهرة المتسارعة، لا بد من اتباع استراتيجيات متعددة الطبقات. أولها التعليم الرقمي المتقدم، الذي يتجاوز مجرد التوعية إلى تدريب الأفراد على التفكير النقدي، وفهم كيفية عمل الخوارزميات، والتدقيق في مصادر المعلومات قبل تصديقها أو مشاركتها. هذا يشكل الخط الدفاعي الأول ضد التضليل الرقمي.
ثانيًا، يمكن الاستفادة من الذكاء الاصطناعي نفسه لمكافحة تأثيراته السلبية، من خلال تطوير أدوات للكشف التلقائي عن المحتوى المزيف، مثل برامج تحليل النصوص، والتعرف على الفيديو والصور المزيفة، وأنظمة مراقبة الشبكات الاجتماعية لرصد الحملات المنظمة للتضليل. يجب أن تكون هذه الأدوات متاحة للمؤسّسات الإعلامية، والقطاع الحكومي، والمجتمع المدني، لضمان سرعة الرد وتقليل الأضرار.
ثالثًا، على المستوى القانوني والسياسي، تحتاج الدول إلى سن تشريعات واضحة تنظم إنتاج ونشر المعلومات الرقمية، وتحديد المسؤوليات القانونية عند انتهاك هذه القوانين، مع تعزيز التعاون الدولي لتبادل الخبرات ومكافحة التضليل عبر الحدود. كما يجب أن تتبنى الحكومات سياسات شفافة تتيح للمواطنين الوصول إلى المعلومات الصحيحة والمحدثة، ما يعزز الثقة العامة ويقلل من فرص انتشار الأخبار المزيفة.
رابعًا، يلعب الإعلام دورًا محوريًا في هذه الحرب، لكن بطريقة مختلفة عن التوعية الرقمية التقليدية. على الإعلام أن يلتزم بمعايير الشفافية، وأن يقوم بالتحقق السريع من الأخبار قبل نشرها، وأن يصحح الأخطاء عند اكتشافها. كذلك، من المهم تعزيز ثقافة إعلامية تعتمد على الحوار المفتوح ومراجعة الحقائق، بحيث يصبح الجمهور قادرًا على التمييز بين الحقيقة والزيف.
أخيرًا، دعم البحث العلمي يمثل حجر الزاوية لفهم طبيعة حرب المعلومات في عصر الذكاء الاصطناعي. الدراسات التي تبحث في تأثير الذكاء الاصطناعي على نقل المعلومات وكيفية انتشار التضليل تساعد صناع القرار على تطوير أدوات واستراتيجيات فعالة، سواء على المستوى التقني أو الاجتماعي.
وعليه، إنّ حرب المعلومات في زمن الذكاء الاصطناعي ليست مجرد تهديد تقني، بل هي تهديد متعدد الأبعاد—اجتماعي، نفسي، سياسي، واقتصادي. التحدي الأكبر يكمن في سرعة انتشار المعلومات، ودقتها المزيفة، وقدرتها على استهداف الأفراد بشكل شخصي. لكن بالإمكان مواجهة هذه الحرب من خلال التعليم الرقمي، وتطوير أدوات الذكاء الاصطناعي المضادة، وفرض تشريعات فعالة، وتعزيز ثقافة المجتمعات القائمة على الحقائق، وتشجيع الحوار المفتوح. المستقبل الرقمي لن يكون آمنًا إلا إذا تضافرت جهود المؤسّسات والمجتمع لتقليل مخاطر التضليل وبناء وعي جماعي متين قادر على مواجهة تحديات العصر بثقة وحكمة.