اخبار لبنان
موقع كل يوم -ام تي في
نشر بتاريخ: ٤ حزيران ٢٠٢٥
طوال السنوات الماضية، بدا ملف الطاقة في سوريا، كما في لبنان، كواحد من أصعب الملفات وأكثرها استعصاء على المعالجة، بفعل تعقيدات الحرب والعقوبات والانهيار الهيكلي الذي أصاب البنية التحتية منذ عام 2011. لكن الاتفاق الذي تمّ توقيعه في دمشق قبل أيام، وتحديداً في 29 من أيار الفائت، يُعتبر بمثابة التطور الأكثر جرأة في هذا القطاع منذ أكثر من عقد، سواء لجهة حجم الاستثمار أو تنوّع الأطراف المنخرطة فيه، أو حتى دلالاته السياسية على المستوى الإقليمي والدولي، والتي يبدو أن لبنان لا يزال بعيداً عنها حتى اللحظة.
بلغت قيمة الاتفاق 7 مليارات دولار، وقد جرى توقيعه بين الحكومة السورية وائتلاف دولي. ويشمل إنشاء أربع محطات كهرباء تعمل بتوربينات غازية بالدورة المركبة (CCGT) بقدرة إجمالية تصل إلى 4000 ميغاواط، موزعة بين دير الزور (شرق سوريا)، ومحردة وزيزون (ريف حماة) وتريفاوي (بريف حمص)، بالإضافة إلى محطة طاقة شمسية بقدرة 1000 ميغاواط ستقام في منطقة وديان الربيع جنوب البلاد.
وبحسب الاتفاق، من المفترض إنجاز المحطات الغازية خلال 3 سنوات، في حين يُتوقع أن تُنجز محطة الطاقة الشمسية في أقل من سنتين، بعد استكمال التفاصيل الفنية وإغلاق التمويل.
الشركات المستثمرة
يقود الائتلاف شركة UCC Concession Investments القطرية، وهي الذراع الاستثمارية لشركة أورباكون القابضة التي يرأسها رجل الأعمال السوري - القطري معتز الخياط. فيما تمثل شركة Power International USA الطرف الأميركي في المشروع، وهي شركة طاقة مسجّلة في الولايات المتحدة يُعتقد أنّها ستتولى توريد التكنولوجيا والأنظمة التقنية الحديثة. أما الطرف التركي، فيمثله كل من شركة Kalyon GES Enerji Yatirimlari وشركة Cengiz Enerji، اللتين تشتركان في تطوير وتشغيل مشاريع الطاقة في دول عدّة.
ما يعطي هذا الاتفاق وزناً سياسياً استثنائياً، أنّه يأتي في أعقاب تحوّلات كبرى في المشهد السوري منذ نهاية العام الماضي، حين تسلّم الرئيس أحمد الشرع السلطة عقب الإطاحة ببشار الأسد. ومع الانفتاح الجزئي الذي تشهده دمشق، وتراجع وتيرة العنف، بدأ الحديث يدور بصوت عالٍ عن عودة رؤوس الأموال الخارجية، لا سيما من دول الخليج وتركيا، إلى قطاعات البنية التحتية، وفي مقدّمها اليوم قطاع الطاقة.
الجانب الأميركي: داعم صامت
التوقيع تمّ في قصر الشعب بحضور الرئيس السوري أحمد الشرع والمبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا توماس باراك، الذي كان حاضراً خلال التوقيع، وكذلك حضر جزءاً من اللقاء الذي جمع الشرع بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان في أنقرة قبل أيام أيضاً، بحسب معلومات نداء الوطن.
هذا الحضور يعكس وجود ضوء أخضر أميركي، ولو صامت، للمضي في العديد من مشاريع إعادة الإعمار ولو ضمن شروط محددة، من بينها ضمانات تتعلق بالشفافية، وشراكة القطاع الخاص، واستخدام معدات وتقنيات مصدرها دول غير خاضعة لعقوبات ثانوية.
بحسب تقديرات الخبراء، فإنّ الاتفاق يُعدّ بمثابة اختبار أولي لقدرة الحكومة الجديدة على استقطاب التمويل وتنفيذ مشاريع استراتيجية ضمن بيئة لا تزال تعاني من هشاشة أمنية وإدارية. كما أنّ نجاح هذه المشاريع قد يمنح دفعة قوية للمناطق الداخلية التي تعاني من انقطاعات كهرباء شبه دائمة، وسيخلق بيئة ملائمة لاستئناف النشاط الصناعي والزراعي، ورفع مستويات الإنتاج المحلي.
وكان قطاع الكهرباء في سوريا، قد انهار بشكل شبه كامل على مدار سنوات الحرب، إذ انخفضت القدرة الإنتاجية من نحو 9500 ميغاواط في 2010 إلى أقل من 1600 ميغاواط في 2025، وذلك بحسب أرقام صادرة عن وزارة الطاقة السورية.
وحتى الآن، ما زالت أغلب المناطق في الجارة سوريا، تعتمد على ساعات تغذية لا تتجاوز 3 إلى 4 ساعات يومياً، ما انعكس سلباً على الحياة اليومية والخدمات الصحية والتعليمية، فضلاً عن توقف أغلب المصانع والمعامل الخاصة.
الرسالة الأبرز التي يحملها هذا الاتفاق، أنّ سوريا بدأت فعلياً تدخل، ولو ببطء، مرحلة التعافي الاقتصادي المفقود في لبنان، انطلاقاً من قطاع الطاقة، وبتوقيع مع شركات من دول كانت متنافسة سياسياً حتى الأمس القريب. لكن تبقى التحديات قائمة، سواء لناحية التمويل المستدام، أو الضمانات السياسية، أو البيئة التشريعية والإدارية التي يتطلبها إنجاح مشروع بهذا الحجم والتعقيد.
لبنان المظلم... ينتظر
لكنّ المفارقة الأشد وقعاً، لا تكمن فقط في حجم الاتفاق. بل في موقع سوريا اليوم مقارنة بلبنان، الذي يرزح بدوره تحت عبء انهيار كهربائي مزمن من دون أي بوادر جدية لحلول استراتيجية. فعلى الرغم من الفارق الكبير في مستوى التدمير والبنى التحتية بين البلدين، استطاعت دمشق توقيع واحدة من أضخم صفقات الطاقة في المنطقة، بينما لا يزال لبنان عاجزاً حتى عن تثبيت تعرفة عادلة أو تطبيق خطة إصلاح متكاملة، بعد أكثر من 5 سنوات على الأزمة. مع العلم أنّ حاجة لبنان هي أقل من 4000 ميغاواط، واستطاع تأمين قرابة 1000 ميغاواط منها بشكل فردي عبر الطاقة الشمسية (مبادرات خاصة من المواطنين).
في لبنان، السجال يتواصل منذ سنوات بين الحصول على الدعم الغازي من مصر، واستيراد الكهرباء من الأردن، وإنشاء معامل عبر القطاع الخاص أو عبر الدولة، من دون أن يُترجم ذلك بخطوة تنفيذية واحدة، فيما تغيب الإرادة السياسية، وتتراكم الشبهات، وتُستنزف البلاد في بازار داخلي لا ينتهي.
حلول قاصرة
هذا التقصير يدفع ثمنه المواطنون اللبنانيون اليوم، خصوصاً بعد زيادة رواتب العسكريين العاملين والمتقاعدين عبر تثبيت سعر المحروقات، والذي سيؤدي اعتباراً من بداية هذا الشهر إلى رفع فواتير الاشتراكات نتيجة ارتفاع سعر المازوت بمقدار 170 ألف ليرة تقريباً.
تراجع لبنان يقابله تقدّم في سوريا بهذا المجال، برغم الحصار والماضي القريب المثقل بالحرب. وهذا لا يعكس فقط تبدّل الظروف الجيوسياسية لصالحها على حساب لبنان، بل يطرح علامات استفهام موجعة عن سبب عجز الدولة اللبنانية، بأجهزتها ومؤسساتها، عن التقاط لحظة استثمار مماثلة، ولو بالحد الأدنى.