اخبار لبنان
موقع كل يوم -ام تي في
نشر بتاريخ: ٢٠ أيار ٢٠٢٥
تثبت التطوّرات المتلاحقة والمتسارعة في المنطقة أن خريطة الشرق الأوسط يُعاد رسمها على نار هادئة حيناً، وعلى نار الحروب المشتعلة أحياناً أخرى، وما كان مستحيلاً في الأمس القريب بات ممكناً في المستقبل الوشيك. فمن كان يتصوّر أن «سوريا الممانِعة»، في الشكل على الأقلّ، إبّان حكم «الأسد الفار»، تتقدّم الآن في عهد «الشرع المنفتح» بخطى ثابتة على طريق التطبيع مع إسرائيل، التي باتت سالكة ومعبّدة أكثر من أي وقت مضى.
فقد كشف الإعلام العبري كما الغربي قبل أيام النقاب عن محادثات مباشرة عُقدت بين تل أبيب ودمشق في باكو، عاصمة أذربيجان، شارك فيها من الجانب الإسرائيلي مسؤولو مجلس الأمن القومي ورئيس شعبة العمليات في الجيش اللواء عوديد بسيوك، الذي يُعَدّ الرجل الثالث في التسلسل الهرمي في الجيش، ومن الجانب السوري ممثلون عن الحكومة السورية وُصفوا بالمقرّبين من الرئيس السوري، وبحضور مسؤولين أتراك، بحكم أن لقاءات بسيوك تُعتبر جزءاً من المحادثات التي أجرتها الأجهزة الأمنية الإسرائيلية مع أنقرة في شأن الوضع في سوريا، ولما للاستخبارات التركية من دور فاعل في الميدان الأمني السوري.
مكاسب أمنية واقتصاديةالمحادثات بين الطرفين السوري والإسرائيلي لن ترقى بطبيعة الحال إلى مفاوضات الحلّ النهائي، أي أنها لن تشمل هضبة الجولان التي احتلّت الدولة العبرية نحو ثلثي مساحتها في «حرب الأيام الستة» عام 1967، قبل أن تضمّها إلى أراضيها عام 1981، والتي يُفترض أن تكون شرطاً سورياً محورياً لأي عملية تطبيع، بل إن جلّ ما يرنو إليه الشرع من مشروع التطبيع، مكاسب أمنية تتمثل بوقف الغارات الإسرائيلية على الأراضي السورية وإعادة الاستقرار إلى الجنوب السوري وانسحاب الجيش الإسرائيلي من هناك ومن المواقع التي احتلّتها الدولة العبرية في الآونة الأخيرة في المنطقة العازلة عقب سقوط نظام الأسد، مع تسليم سلطات دمشق ببقاء الإسرائيليين في بعض النقاط الأمنية الثابتة وقد تكون دائمة في الجنوب السوري بعد التطبيع، بينما تكمن مصالح تل أبيب في التطبيع بضمان بقاء منطقة منزوعة السلاح في جنوب دمشق، وبادعائها بحماية المكوّن الدرزي في سوريا، حرصاً على العلاقة التاريخية «الوطيدة» مع دروز إسرائيل.
كذلك، يطمح الشرع إلى أن يفتح له التطبيع مع تل أبيب أبواب الغرب الاقتصادية على مصراعيها، ويسمح بتدفّق المساعدات المالية الدولية ويطلق العنان للاستثمار الغربي والخليجي في المدن السورية المتعطّشة لضخّ أموال خارجية في عروق الاقتصاد المتهالك منذ عشرات السنين.
أثمان سياسية باهظةغير أنّ لهذا التطبيع، إن كُتبت له الحياة، أثماناً سياسية داخلية باهظة قد يدفعها الشرع من رصيده الإسلامي والشعبي، خصوصاً في ظلّ انتفاء وجود بيئة شعبية سورية حاضنة للتقارب مع الدولة العبرية، حيث إن أي سلام مع إسرائيل كان يُعدّ من المحرّمات السياسية والأيديولوجية في قاموس مَن تبقّى مِن شعب «محور الممانعة»، بيد أنه في ميزان الشرع أيضاً، هناك أهمية كبيرة لرضا «العم سام» عليه من خلال التطبيع، ولولا هذا الرضا لما تمكّن أصلاً من الإطاحة بحكم آل الأسد المتجذّر لأكثر من خمسة عقود، ولما وصل إلى سدّة الرئاسة الانتقالية. وخير دليل على رضا قاطن البيت الأبيض ومباركته الشرع، لقاؤه به في الرياض الأسبوع الماضي وإشادته به وإبداء إعجابه به كمقاتل، فضلاً عن إعلانه من المملكة رفع العقوبات عن «سوريا الجديدة»، على مسامع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان.
إذاً، تأتي اللقاءات التي لم تَعُد سرّية بين عدوّي الأمس إسرائيل وسوريا، وسط فوالق زلزالية جيوسياسية تضرب منطقة الشرق الأوسط برمّتها، وفي سياق إقليمي متحوّل، تجهد فيه الدولة العبرية لتوسيع دائرة الدول العربية المُطبِّعة معها، مستفيدةً من حاجة سوريا الجديدة الملحّة للدعم الدولي، وهي الدولة الوليدة المثخنة بجراح حرب داخلية دامية، وبسنين اقتصادية عجاف.