اخبار لبنان
موقع كل يوم -جريدة اللواء
نشر بتاريخ: ١٥ أب ٢٠٢٥
في لحظة مفصلية من تاريخ لبنان المالي، أصدر النائب العام المالي القاضي ماهر شعيتو قراراً قضائياً استثنائياً يقضي بإلزام الأشخاص الطبيعيين والمعنويين، بمن فيهم بعض المصرفيين، بإعادة المبالغ التي حوّلوها إلى الخارج خلال فترة الأزمة، وإيداعها في المصارف اللبنانية بالعملة ذاتها، خلال مهلة شهرين، وتحت إشراف مباشر من النيابة العامة المالية.
هذا القرار، الذي أتى بعد تحقيقات معمّقة، ليس إجراءً روتينياً، بل خطوة نوعية تهدف إلى إعادة ضخ الأموال في شرايين الاقتصاد الوطني، ورفع منسوب الثقة بالنظام المصرفي، ومعالجة آثار عمليات التحويل التي ساهمت في تفاقم الأزمة النقدية واستنزاف الاحتياطيات بالعملات الصعبة.
يستند قرار القاضي شعيتو إلى مزيج من المبادئ القانونية والصلاحيات المخوّلة للنيابة العامة المالية بموجب المرسوم الاشتراعي رقم 150/1983، الذي يمنحها صلاحيات النائب العام التمييزي ضمن نطاق الجرائم المالية. وتشمل هذه الصلاحيات:
- التحقيق والملاحقة في قضايا المال العام، وتبييض الأموال، والفساد، والتهرّب الضريبي.
- اتخاذ تدابير احترازية واستثنائية في حالات الضرورة القصوى لحماية النظام الاقتصادي.
- الاستناد إلى مبدأ «حماية المصلحة العامة» الذي يعلو على المصالح الفردية في الأزمات الوطنية الكبرى.
ورغم غياب نص قانوني صريح يلزم الأفراد بإعادة الأموال المحوّلة بهذه الكيفية، فإن الإطار العام لمكافحة الجرائم المالية يمنح النيابة العامة مرونة واسعة للتدخّل عند تهديد الأمن المالي للدولة. فالقرار هنا يندرج في خانة «الإجراءات الاستثنائية التي تفرضها الضرورة»، وهو ما يبرره حجم الضرر الذي أحدثته التحويلات الخارجية في ذروة الأزمة، وتأثيرها المباشر على السيولة وحماية المودعين.
لم يأتِ هذا القرار الإستثنائي من فراغ، فالقاضي ماهر شعيتو يمتلك مسيرة قضائية حافلة بالنزاهة والكفاءة. فهو من مواليد دير انطار – قضاء بنت جبيل عام 1973، تخرّج من كلية الحقوق بالجامعة اللبنانية عام 1993 بترتيب الثاني على دفعته، ثم التحق بمعهد الدروس القضائية ليتدرج في مناصب عدة، من قاضٍ منفرد جزائي في أكثر من منطقة، إلى محامٍ عام في جبل لبنان، فرئيس اللهيئة الاتهامية في بيروت، وعضو في مجلس القضاء الأعلى (2018-2021).
خلال مسيرته، تعامل مع ملفات كبرى تركت بصمة في التاريخ القضائي، منها: قضية جريمة أنصار المروّعة؛ واعتبار بقاء الموظفين داخل المصرف أثناء استيفاء المودع حقه بالذات ليس خطفاً؛ وإعلان عدم اختصاص اتهامية بيروت للنظر في استئناف قرارات المحقق العدلي في انفجار مرفأ بيروت؛ وترسيخ مبدأ أن مذكرة التوقيف واجبة التنفيذ رغم تقديم الدفوع الشكلية.
كما يمكن قراءة قرار القاضي شعيتو من زاويتين قانونيتين متكاملتين:
1. الرد العيني للأموال: وهو مبدأ قانوني يهدف إلى إعادة الحال إلى ما كانت عليه قبل وقوع الضرر، ويُعمل به في قضايا الأموال المكتسبة بطرق غير مشروعة أو الناتجة عن إساءة استعمال السلطة. فالقرار، وإن لم يصرّح بأنه رد عيني، إلّا أنه يحقق النتيجة ذاتها بإلزام المعنيين بإعادة المبالغ ذاتها إلى داخل النظام المصرفي.
2. التدابير الاحترازية القضائية: وهي إجراءات وقائية يتخذها القضاء لمنع استمرار الضرر أو تفاقمه، خصوصاً في الجرائم المالية ذات الطابع المستمر. وهذا القرار يندرج ضمن هذه الفئة، إذ يهدف إلى وقف النزيف المالي وحماية الاستقرار النقدي.
وفي ذات السياق، يمثل القرار رسالة واضحة بأن القضاء اللبناني قادر على حماية المصلحة الوطنية العليا، ومواجهة مظاهر الإفلات من المساءلة، خصوصاً في القضايا التي تمسّ الأمن المالي. وإذا ما جرى تطبيقه بحزم، يمكن أن يشكّل نموذجاً لمعالجات قانونية جريئة تستعيد جزءاً من الأموال المنهوبة أو المهرّبة، وتمنح المودعين أملاً ملموساً باسترداد حقوقهم.
إن القاضي شعيتو، بما يحمله من صلابة وتجربة، يثبت مرة أخرى أن العدالة لا تزال قادرة على لعب دور الإنقاذ في أحلك اللحظات، وأن النظام المالي اللبناني، رغم الجراح، ما زال لديه فرصة للنهوض إذا توفرت الإرادة القضائية والسياسية.