اخبار لبنان
موقع كل يوم -جريدة اللواء
نشر بتاريخ: ١٦ أيلول ٢٠٢٥
يمثّل الأدب، والرواية تحديداً، مرآة للمجتمع وتحوّلاته النفسية والوجدانية والسلوكية. ومن خلال الشخصيات الروائية، يمكن تتبّع الأنماط السلوكية والانحرافات النفسية التي تعبّر، في أحيان كثيرة، عن خلل في البنية الاجتماعية أو السياسية أو القيمية. من بين هذه الأنماط، يبرز الاعتلال الاجتماعي بوصفه حالة نفسية وسلوكية تتجسّد في شخصيات روائية تتّسم بالكذب، التلاعب، العدوانية، وغياب التعاطف. وعلى الرغم من أن المصطلح لم يكن حاضراً صراحة في المتن النقدي العربي، إلّا أن الرواية العربية، وخصوصاً ما بعد منتصف القرن العشرين، قدّمت نماذج سردية متقنة تُجسّد هذا الاضطراب ضمن سياقات اجتماعية ونفسية معقّدة.
يُعرّف الاعتلال الاجتماعي (Sociopathy) في علم النفس بأنه اضطراب في الشخصية المعادية للمجتمع (ASPD)، حيث يعاني الفرد من انعدام الضمير، اللامبالاة بالآخرين، الكذب المزمن، والعنف دون شعور بالذنب. هذه الصفات، وإن لم تُذكر بصيغتها النفسية الصريحة في الرواية العربية، إلّا أنها حاضرة بشكل واضح في عدد من الشخصيات المحورية، لا بوصفها حالات طبية، بل تجسيداً درامياً لانهيار الإنسان أو تحوّله إلى كائن مفترس بفعل الواقع القاسي. فهل الاعتلال الاجتماعي في «اللص والكلاب» لنجيب محفوظ كانت مثالاً على ذلك؟
يمكن اعتبار شخصية سعيد مهران، بطل رواية «اللص والكلاب» (1961) واحدة من أبرز تجليّات الشخصية المعتلة اجتماعياً في الرواية العربية. يظهر سعيد كشخص غاضب، ناقم، يعيش في حالة دائمة من الهذيان الذاتي، ويبرر أفعاله الإجرامية بثنائية الخير والشر التي يُعيد تركيبها وفقاً لرؤيته. «إني لا أُخطئ، إنهم هم المخطئون... إنهم يستحقون الموت» إذ يعاني سعيد من تفكك في المنظومة الأخلاقية، ويبرّر جرائمه برؤية ذاتية مشوّهة، رافضاً أي محاسبة أو نقد. هذا النوع من التبرير الذاتي والاستعلاء الأخلاقي الزائف يُعدّ من السمات الرئيسية للمعتل الاجتماعي، كما يصفها علم النفس. كما هي الحال في نموذج السلطة المعتلّة اجتماعياً في «الزيني بركات» لجمال الغيطاني إذ تُقدّم رواية «الزيني بركات» (1974) نقداً حادّاً للسلطة الأمنية القمعية في العهد المملوكي، لكن عبر شخصيات تُجسّد أنماطاً نفسية مرضية، خاصة شخصية زكريا الزواوي، رئيس جهاز الحسبة. «الناس لا يعرفون الحقيقة، والحقيقة لا تُقال، بل تُصنع». فشخصية زكريا تُظهر قدرة عالية على التلاعب، الكذب المنهجي، انتهاك الحريات، وانعدام كامل للتعاطف، وهي سمات تُقارب بشدّة السمات السريرية للاعتلال الاجتماعي. فالقمع عنده ليس مجرد وسيلة، بل يبدو استمتاعاً بالتحكم في مصائر الآخرين، وهو ما يتقاطع مع مفهوم «اللذة السادية» المرتبط ببعض المعتلين اجتماعياً لكن ماذا عن الاعتلال داخل الأسرة في رواية «بين القصرين»؟
في «بين القصرين» (1956)، الجزء الأول من ثلاثية نجيب محفوظ، نجد السيد أحمد عبد الجواد يجسّد شخصية الأب المتسلّط المستبد، الذي يمارس القهر على أسرته بينما يعيش حياة مزدوجة خارج البيت. «كانت كلمته قاطعة نافذة، لا تُناقش ولا تُردّ، أما خارج البيت، فهو رجل مَرِح، سكير، متهتك». هذه الازدواجية بين السلوك الاجتماعي الخارجي، والسلوك التسلّطي الداخلي، تشير إلى انفصال في الوعي الأخلاقي، وتدفع أفراد الأسرة نحو التفكك النفسي، ما يُعيد إنتاج الاعتلال داخل السياق الأسري.
أما الاعتلال الاجتماعي في السياق السياسي نجده في رواية «اللجنة» لصنع الله إبراهيم إذ يقدّم صنع الله إبراهيم شخصية البطل في مواجهة سلطة غامضة، بيروقراطية، تتصف بالبرود، الاستفزاز، والتلاعب النفسي. اللجنة تمارس سلوكاً سلطوياً غير مفهوم، دون تبرير، مما يجعلها تجسيداً رمزياً لمنظومة معتلة اجتماعياً بالكامل. يُذكر أن الرواية كُتبت في سياق نقد النظام المصري بعد الانفتاح، ما يجعل من الاعتلال الاجتماعي هنا حالة مجتمعية وليست فردية، حيث تتحوّل البيروقراطية إلى كيان غير أخلاقي يتلذذ بالتحكّم في الفرد. فهل الرواية تشخّص المرض أم تكشف المجتمع؟
إن حضور الشخصيات المعتلّة اجتماعياً في الرواية العربية لا يُقصد به دائماً توصيفاً سريرياً، بل هو غالباً وسيلة فنية لفضح القمع، والنفاق، والانحلال الأخلاقي داخل بنية المجتمع. إن الرواية، بهذا المعنى، ليست عيادة نفسية، بل مرايا للوعي الجمعي. ومع تصاعد الاهتمام بالنقد النفسي والسرد العيادي في الدراسات الأدبية الحديثة، يظل تحليل الشخصيات من هذا المنظور ضرورياً لفهم أعمق للطبقات النفسية في السرد العربي، خصوصاً مع صعود الرواية كفن قادر على تفكيك الذات والواقع معاً.