اخبار لبنان
موقع كل يوم -درج
نشر بتاريخ: ١٨ حزيران ٢٠٢٥
هنا قصص أشخاص هُجِّروا من بيوتهم خلال الحرب الاسرائيلية على لبنان. يشاركوننا تجربة النزوح، وهو مصطلح لا يعبّر بإخلاص عن شعور الاستئصال من الأرض بالقوّة، التي يشعر الكثير منهم أنها لم تنتهِ بعد. فالأثر النفسي لا يزال حاضرًا، وإعادة الإعمار لا تزال بعيدة
'نُشر تحقيق 'يوميات النزوح في لبنان' في الأصل في موقع ذا نيو هيومانيترين. تم تعديل هذا الموضوع لجهة الطول وتكثيف الأفكار.
لقراءة القصص كاملة، يُرجى زيارة يوميات النزوح في لبنان'.
في 27 تشرين الثاني/ نوفمبر، وقّعت كلّ من إسرائيل و'حزب الله' على اتفاق وقف إطلاق النار الذي وضع أخيرًا حدًّا لأكثر من عام من الصراع في لبنان، لكنّ وقف الاقتتال هذا لم يتم إلا عقب ثلاثة أشهر من القصف الجوي الإسرائيلي المكثّف والاجتياح البرّي اللذَين أجبرا أكثر من مليون شخص على مغادرة منازلهم وتسببا بمقتل 4000 شخص، الكثير منهم من المدنيين.
وها نحن اليوم، بعد مرور ستة أشهر، ولا يزال حوالي 90 ألف شخص عاجزين عن العودة إلى بيوتهم ولا يزال ثقل الحِمل على حاله.
هنا قصص أشخاص هُجِّروا من بيوتهم خلال الحرب. يشاركوننا تجربة النزوح، وهو مصطلح لا يعبّر بإخلاص عن شعور الاستئصال من الأرض بالقوّة، التي يشعر الكثير منهم أنها لم تنتهِ بعد. فالأثر النفسي لا يزال حاضرًا، وإعادة الإعمار لا تزال بعيدة، وعلى الرغم من عودة الناس إلى أعمالهم ومقاعد الدراسة، إلّا أنّ الحياة لم تعد إلى سابق عهدها ولا تزال حياة الكثيرين معلّقة. أمّا إسرائيل فلا تزال تقصف الجنوب بشكل مستمر ولا يزال جنودها متمركزين في البلاد. ولا يزال كل طرف يتّهم الآخر بانتهاك اتفاق وقف إطلاق النار.
تشكّل كلمات أبو علي وعبّاس وحسن وليو ونور وراغدة ورهام وروبير وزهراء وياسمينة نافذة على تجربة النزوح وكيف تُعاش بالفعل. وتُعتبر كلماتهم خير تذكير أنّه بالنسبة إلى المدنيين الذين يجدون أنفسهم عالقين في الحروب، ليست نهاية الحرب بنهاية القصة.
*لحماية خصوصية الأشخاص الذين قابلناهم، قمنا باستخدام أسمائهم الأولى فقط، أو كما في حالة ياسمينة، استخدمنا اسماً مستعاراً. لقد تمّت ترجمة وتنقيح المقابلات لتصبح أكثر وضوحًا ولتعديل حجمها أو قواعد اللغة فيها.
حسن
حسن هو شاب في السابعة والعشرين من عمره، ويعمل كمحلل بيانات إعلامية، ويعيش في الضاحية الجنوبية لبيروت مع والدَيه وأخواته. بالرغم من أنّ إسرائيل قد استهدفت الحيّ الذي يعيش فيه بقصف مكثّف وأمضى 66 يومًا بعيدًا عن بيته في منزل أحد أقاربه، إلّا أنّه عمد إلى زيارة الضاحية بالسرّ حينما استطاع لإخراج أغراض عائلته من البيت. عاد اليوم إلى بيته في الضاحية لكنّه لا يشعر بأنّ الحرب قد انتهت بالفعل.
'قبل الحرب، ما كانت حياتي برجوازية أو كأنّي عايش بحلم. كانت حياة طبيعية، بسيطة ومتواضعة. يمكن الشي اللي كان يميّز بيتنا هو موقعه، لأنه قريب على كل شي. في صوت موتير، صوت كميون المي، صوت الجيران…
ريحة البيت كانت حسب المعطّر اللي بترشّو أمي، عادةً بعد ما يشطّفوا، أو لما تعمل كزدورة بالبيت، بتبلّش ترشّ بالغرف… ما في ريحة وحدة معيّنة، بس دايمًا في شي مألوف.
نهار الجمعة بأواخرأيلول/ سبتمبر 2024، إسرائيل ضربت ضربة كبيرة عالضاحية، حد مجمّع القائم. طلعنا الجمعة بالليل على الشبانية، وضلّينا للأحد. السبت والأحد ما رجع صار شي كبير، فقلنا يمكن كانت ضربة محدّدة، ورجعنا نزلنا عالضاحية يوم الأحد. فكّرنا خلص، يوم الإثنين منرجع كلّنا على أشغالنا، ومنرجع لحياتنا الطبيعية.
بس الوضع توتّر كليًّا بعد كم يوم، بعد الضربة على بئر العبد بالضاحية. بعد هيدي الضربة، حسّينا إنه ما بقى في خيار، وخلص قرّرنا نفلّ للمرة التانية…
بالبداية، أخدت معي بس الأساسيات، متل الأوراق الضرورية، شوية مصاري، وكم قطعة تياب…
في شغلات ندمت إني ما أخدتها، خاصة لما بلّشت شوف الحرب عم تطول…
ما في حدا ما رجع مختلف بعد الحرب. الحرب بدها تترك أثر بقلب كل إنسان. ما حدا حاسس بأمان. صحيح في وقف إطلاق نار، بس ما حدا حاسس إنه الحرب خلصت.
الوضع بعده مش مستقر، وفي جوّ توتّر حوالينا، بس عم جرّب إتقبّل هالواقع بهالقدر من الأمان. الحرب خلّتني حس إنّي بدي ضل بلبنان. بدي طوّر شغلي، وبلّش مشروع هون. بحب ضلّني عايش بين أهلي وأصحابي. أنا وخطيبتي، إن شاء الله، بدنا نتجوّز قريبًا. ما بدنا نتغرّب، بدنا نضل هون. هون بدنا يكون مستقبلنا.'
ابو علي
عامل بناء وجدّ وعاشق للزرع، في أواخر السبعينات من عمره من قرية كفركلا على حدود لبنان الجنوبية مع إسرائيل.
أمضى أبو علي، الذي هو في الـ77 من العمر، حياته وهو يبني بيت العائلة ويعتني ببساتينه المزروعة في كفركلا على حدود لبنان الجنوبية. غادر بيته عندما قُصف منزل بالقرب من بيته بقنبلة إسرائيلية. وبعد إمضائه وقتًا في المدارس والمباني العامة ولدى الأقارب، استقرّ الآن مع ابنه وكنّته وحفيداته الثلاث في شقة في جنوب لبنان يملكها أحد أقاربه. دُمّرت كل قريته ولا يظنّ أنه سيتمكن من العودة إلى بيته مجددًا.
'أنا خلقت بكفركلا بجنوب لبنان ، وعشت طول حياتي بكفركلا. أنا طلعت من المدرسة، وصرت إشتغل لحتى عمرت بيت. وتزوجت، وربّيت أسرة من خمس بنات وصبيان. وعمرنا هالبيت على أساس ننستر فيه، والحمد لله انسترنا فيه. ومرتي صارلها شي 8 سنين متوفّية. بيتي بكفركلا هو حياتي كلها. معمّر بشي 300 متر، والباقي جنينة. فيها من جميعه. فيها عريش، فيها جوز، فيها جرانك، فيها رمان، وبزرع خضرا فيها.
بـ1 كانون الثاني/ يناير 2024، طلعنا من كفركلا. ضلّينا صامدين فوق 3 أشهر، أنا وبنتي. .
يعني تقريبًا نحن آخر ناس طلعنا من الضيعة. إنه نحن ما فكّرنا حنضطّر نفلّ. ما فكّرناش إنه تطول الحرب بهالشكل هيدا، وتكون قاسية هالقد…
عرفنا من الصور. هني الإسرائيليي بيحطّوا صور البيوت، البيوت اللي عم تتفجّر. فبيتنا كان موجود، وشفناه كيف تفجّر. وهاي هي… كنّا متأمّلين نروح ونرجع نعيش متل ما كنا بالأوّل. قلنا 'لا حول ولا قوّة'، متلنا متل هالعالم.
شي صعب. لما واحد يترك بلده، يترك بيته، اللي عاش فيه وربّى عيلة فيه.
كنّا متأمّلين إنه نروح ونرجع نعيش متل ما كنا بالأول. يعني شو بدّي فكّر؟ أنا كنت متمنّي إنه يبقى البيت. كان عندي كاراج للسيارة، وكان عندي غرفة لوحدها مستقلّة مع حمّام بالأرضيّات. قلت إذا بقيو، بنطلع بنسكن فيهن. بس كلّه راح. طلعنا طلّينا شفنا البلد كلّه بالأرض. شفنا البلد كلّه… في ولاد خيي التنين، وشباب كتير، استشهدوا كمان.
مش متأمّل إنّه بعد في رجعة للحياة متل ما كانت. ما بعرف، في كتير إشياء مرقت عَ راسنا، بس هيدي الحرب أصعب حرب. في دمار مش طبيعي بالنسبة للدمار اللي صار بالأوّل، يضربوا بيت، اثنان، ثلاثة، عشرة… إي، بس بهالإجرام هيدا ما مرق بالعالم كلّه.
ما بظن رح إقدر إرجع. هيك مبيّن الوضع حاليًا. يعني وإذا بدو يصير في تعمير، قديش بدّو؟ أربع، خمس سنين؟ بعدنا منعيشهن هول؟'
عباس
شاب في السادسة والثلاثين من العمر، عاشق للطبيعة، من بلدة جبشيت في جنوب لبنان، ويعيش مع كلبه كوزاكس.
رفض عباس مغادرة قريته طوال أسبوع على أثر بدء إسرائيل بقصفها، لكنّه في النهاية انضمّ، هو وكلبه، إلى أهله في قرية حرار. عند وصوله إلى القرية العكارية، بدأ التطوّع لمساعدة الآخرين الذين تأثّروا بالحرب والتقى بشبّان وشابات يشاركونه أفكاره.
'أنا من جبشيت بجنوب لبنان. بكره المنطقة، وبشتهي أفصل حالي عنها. خدوا الضيعة! أنا ما بعتبر هيدا الوطن كلّه وطني أصلًا. عايش ببيت لحالي، ببناية أهلي، مع كلبي كوزاكس، عمره شي أربع سنين ونص. ما عندي ولاد، عندي كلبي كوزاكس وبعتبره ابني. بالنسبة لإلي البيت هو جوا الأربع حيطان ببيتي. هونيك العزلة تبعي، لحالي، وهيدا أحلى شي. بحس هيدا مكاني، مطرح آمن لإلي، وما حدا خصّه فيي.
بلّشت حس بعدم الإنتماء بوقت الثورة (المظاهرات ضد الحكومة اللي اندلعت تشرين الأول/ أكتوبر 2019). كتير فروقات بيّنت بهداك الوقت. ونوعًا ما، حسّيت حالي منبوذ لأني مختلف عن محيطي. وقتها، بيّنت كل هالأشياء أكتر. وصار في انتقاد من مجتمعي وبيئتي على مشاركتي بالثورة.
أنا بشتغل بمجال الفايبر أوبتيكس. نهارها صار فيه ضرب من الفجر (بـ23 أيلول/ سبتمبر 2024). وقتها كانت القصة صارلها سنة، وكان في ضرب بلبنان، بس ما كان بعده قوي متل نهارتها. بهديك اللحظة، الكل بلّش يفلّ…
وصلنا لمطرح إنه أهلي بطّلوا يحلّوا عنّي أبدًا بدهم إنّي الحقهم… كنت على تواصل معن كل ساعة! آخر شي، بطّلوا يتركوني بحالي بولا طريقة. قمت خلص، قرّرت فلّ.
مشيت على عكّار. حرار هي ضيعة بظن ارتفاعها حوالي 1200 متر عن سطح البحر. هي ضيعة كلها طلوع، بالجبل، وعطول فوق الغيوم. ..
القعدة بحرار غيّرتني. تعرّفت على ناس جداد ومختلفين. كنا نطلع سوا ونستكشف سوا. الطبيعة هونيك كتير حلوة. كانوا يفرجونا على الفطريات، وبيعرفوا أساميها، وعلى الشجر كمان، وبيعرفوا أسامي كل شي. كان معنا كوزاكس ومعنا حصان. الجو كان عنجد كتير حلو.
خلّصت الحرب، أو عملوا اتفاق وقف النار بنوفمبر/تشرين الثاني 2024، كل العالم فلّت دغري. أنا بقيت شوي، لأنّي كنت مأجّر أوضة عن جديد بالضيعة، وتعبت عليها كتير لأرجع أرتّبها، وكنت حابب ضلّ فيها وإقعد لحالي. كان صاير وقتها مشكل كتير كبير مع أهلي كرمال كوزاكس.
بتذكّر إنه بعد شي 5 أو 6 أيام، بيّي كانت نفسيّته مدمّرة لأن مصلحته كتير متأذية. وكانوا عم يدقّولي هو وخيي، متل كأنهن عم يترجّوني إرجع. أنا الوحيد اللي بركّب الكابلات الأساسية بشغل العيلة، وكانوا بحاجة إلي. وكنت عارف إني رح إرجع، لأن كان عندي إحساس بالمسؤوليّة تجاههن.
هلّق أنا فلّيت من الجنوب بعد جمعة، فكنت شايف دمار كتير، بس ما كان بعدها سوق النبطية، السوق القديم، مضروب. بس لمّا رجعت، شفت إنه السوق خلص… ما عاد سوق النبطية اللي كنّا نعرفه. كلنا حسّينا بهيدا الشعور، إنه هيدا كان متل ذكرى، منظره محفور ببالنا، ما منتخيّله يتغيّر. وبترجع تلاقيه بهالشكل… مدمّر. أنا بيتي لقيته متل ما تركته، فما قطعت بنفس المعاناة اللي مرقوا فيها غيري.
رجعت عالشغل، وحرفيًا صرلي شهرين مش ماخد ولا عطلة. وأكيد في جو حزن طاغي حوالينا. عمتي مثلًا خسرت ناس كتير من ضيعتها ومن قرابتها. ومش بس هي، كل نازح خسر حدا. أنا كمان خسرت أصحاب قدامى وقرايب. حتى اللي ما فقد حدا، راحله بيت. واللي ما راحله بيت، راحله رزقه وشغله. كل حدا خسر شي. وأكيد، الخسارات مش كلّها متل بعض. بعرف شخص ماتت كل عيلته، وبقي لحاله. الناس كلها زعلانة، والكل عم يجرّب يتأقلم، والكل عم يحاول يرجع لحياته الطبيعية، بس الغصّة موجودة جوّا كل واحد فينا.
من وقت ما رجعت، عم بشتغل لدرجة إنّي ما عم شوف كوزاكس كتير. بس هو بحب يسرح بالوديان، وبحب حياته بالضيعة. فمتل مطمِّن عليه… بعرف إنّه بأمان، وما رح يصيبه شي. رَوَاق، ماشية أموره.
بعدني ما بحس بالانتماء لهون. يمكن أنا الغلط. وقت الثورة، عطيت كتير من وقتي، ومن تعبي، ومن روحي، كرمال هالبلد. ووقت النزوح، شفت ناس عم تعطي من دمها، من مالها، من جهدها وتعبها لتساعد النازحين. فبالنسبة إلي هول الأشخاص اللي تعرفت عليهن هني أحلى شي صار بالحرب. فبينما قبل كنت قول ما بدي اترك بيتي بالضيعة، هلّق بقول منيح إنّي تركته لفترة. الطلعة من هالمكان رجعتني للحياة بطريقة ما.'
ريهام
أمّ في الثامنة والثلاثين من العمر ولديها ثلاثة أولاد. تركت سوريا قبل 11 عامًا هربًا من الحرب واستقرّت في بلدة الكرك في شرق سهل البقاع في لبنان.
هي من درعا في سوريا. كانت تعيش، إلى حين تفاقم الحرب في أيلول/ سبتمبر 2024، مع زوجها فراس وأولادهما الثلاثة، في بلدة الكرك في شرق سهل البقاع. تعاني من شلل في الجزء السفلي من جسمها وتعتبر كُرسيها المتحرّك 'ولدها الرابع'. دُمّر بيتها بالقصف وبعد إمضائها وقتًا في أحد 'الكاراجات' وفي العراء في أحد بساتين الزيتون، تقطن اليوم مع عائلتها في أحد مراكز الإيواء.
'لمّا إسرائيل هددت تضرب، ما كنت قادرة صدّق. أنا بالأصل من درعا، من سوريا. تزوّجنا بسوريا، وبعد 8 شهور طلعنا أنا وزوجي لهون بسبب الحرب والوضع هنيك. كنّا عايشين ومبسوطين. جيت علبنان من 11 سنة.
طبعًا أنا عندي وضع صحّي خاص غير عن العالم كلها، عندي شلل بالجزء السفلي. يعني وضعي ما بيسمحلي مثلًا أشيل طفلتي بحضني، فكنت خايفة إذا صار شي، ما أقدر طلّع ولادي من البيت. كرسيّي المتحرّك هو الولد الرابع… ما فيني إستغني عنّه.
هيدا الشي كتير أثّر عليي وعلى نفسيتي. كنت أطلب من زوجي، إذا صار في قصف، يفلّ بولادي، كرمال أنقذ حدا من عيلتي. صرت خلّي الكرسي المتحرّك بباب البيت، منشان إذا صار في ضرب بأي لحظة نكون جاهزين، إقعد إطلع على الكرسي، وكلنا نطلع سوا.
وقت بلّشت الحرب، كنّا قاعدين بالكرك بزحلة. كنا ساكنين ببناية، بالطابق الأول، وفوقنا أربع طوابق. أكتر شي كنت حبّه هو القعدة قدّام باب البيت، الصبح، مع فنجان القهوة وصوت العصافير. ما في قدّامنا شي، في مكسر، بس الحلو هو الهدوء. الحي فيه حوالي 10 عيل، كل واحد ببيته، بس كنّا متل بتحسّينا كأنّا الأهل أهل.
كنت عم أحمّم ولادي، وسمعت صوت الضربة. بهاللحظة، عبطت ولادي التلاتة، وصرت أبكي وصرّخ.
إجا زوجي وأخد الولاد وطلع لبرا. قلتله: 'بدي آخد للبنت تياب وحفاضات'. قلّي: 'ما بدنا، المهم ضلّ إقدر أطلع فيكي وبالولاد'. ما كنّا بدنا نضل ننتقل من بيت لبيت عند العالم. كنا منعرف إنه في أرض فاضيةفضا، كرم زيتون، قريب من مطرح ما قعدنا فيه قبل بسعدنايل، فقلنا منروح لهونيك. طبعًا الكرسي المتحرّك ما كان يمشي بالتراب، والدنيا نار، كتير شوب. زوجي جوزي حملني على ظهره، وحمل بنتي بحضنه، وخلّى واحد من ولادي يشيل الكرسي.
رجع زوجي جوزي وجبلنا فرشة مزدوجة وحرامَين. بالليل كانت الفرشة تتبل من الرطوبة. يضلّ هو سهران ساعتين وأنا أنام، ووقت ينعس يفيقني وهو ينام. كنا نتناوب هيك. صارت تطلع علينا جرادين، وكنت خايفة… إذا جردون عضّ واحد من الولاد، أنا شو بدي آسوّي؟! ما كان في حوالينا غير كم صخرة كبيرة ننام ونتدارى فيهن من الهوا بالليل. ضلّينا 10 أيام بهالأراضي. قلّي: 'تروحي على سوريا؟' هو كان مطلوب للخدمة العسكرية من النظام. قلتلو: 'لأ، أنا ما بتركك وبروح على سوريا'.
زوجي جوزي حكى لصديقه عن الوضع اللي كنا عايشين فيه، واهتمّ ينسّق لنروح على المركز اللي نحن فيه هلّق، ببر إلياس، بلدة بالبقاع. بس وصلنا، أنا انصدمت… حسّيت حالي صرت بعالم تاني. جمعية Frontliners for Change'فرونتلاينرز فور تشاينج' اللي بتدير المركز استقبلونا أحلى استقبال، وقالولي: 'هون ما بصير شي.' ضلّيت أتلمّس الحيطان، وأبكي، وأقول: 'ألف الحمد لله يا رب' إني لقيت أربع حيطان وغرفة تآويني أنا وولادي'.
بأواخر 2024، لمّا سقط النظام بسورياوبلّشوا الثوار يحاربوا الرئيس السوري السابق بشار الأسد، كنا نسمع القصف من الجهة التانية من الحدود، معمن سوريا. صار معي انهيار عصبي. قلت لزوجي لجوزي: 'يا فراس، هجموا علينا؟ صار في ضرب حولينا؟' فلّيت من الضرب، ولحقني لهون الضرب!
بعد شوي، صاحبو بقله: 'الحمدلله، تحرّرت سوريا.' وأنا حتى ما قدرت إفهم الخبر منيح… لأن الخوف كان مسيطر أكتر. بس إسمع صوت ألعاب نارية، بخاف. ضلّ في خوف بداخلي… حتى صوت الباب إذا سكّر بسرعة، بخوّفني.
وولادي كانوا يخافوا كمان. وقت كانوا يسمعوا القصف، إبني الصغير كان يروح يتخبّى تحت التخت. وبالليل كان يفيق يصرخ ويقلي: 'ماما، إجت الطيارة! إجت الطيارة!' وبعدين، لفترة، صار يصير معه تبوّل لا إرادي بالليل من كتر الخوف.
مع هيك، صرت شوي شوي أحس بالأمان هون. هيدا المكان صار متل بيت للكل. اتعرّفت على كتير ناس طيبين، ودخلوا لقلبي. وحدة من النسوان حملتني على ظهرها، ما كان يهون عليها إنّي أنزل أو أطلع عالدرج لحالي. من غلاوتي عليها، كانت تحملني على ظهرها. وقت يشوفوني، يقولولي: 'ليش منحسّك بتخافي أو بتخجلي؟ تعالي لعنا، منقعد ومنسهر سوا.' وأنا أقول سبحان الله، شلون الله جابهن من الجنوب لنقعد ونتعرّف على بعض، ونصير أصدقاء ويعزّوا عليي.
غير إنهم أمنولي أربع حيطان وكل شي كنت بحاجة إله، أحلى شي قدمولنا ياه بالمركز هون هو الجلسات. فتّحوا عيوننا، أو لفتوا انتباهنا، على كتير شغلات. بالنسبة إلي مثلاً، عن شخصيتي. كيف أتعامل مع الأولاد بطريقة جيدة، وكيف خفّف من توتّري. بوقتها كنت صايرة عصبية كتير، وأقل شغلة كانت تزعجني. وهون، الموظفين والموظفات كانوا كتير قريبين للقلب. ما حسّسونا ولا مرّة إنه نحن نازحين أو تقيلين عليهم.
أنا مرقت باللي ما بيتحمّله إنسان. طلعت روحي وقت كنا بالأراضي. كنت قول نيّال اللي بيموت مرة وحدة، لأن خلص… بيكون بيعرف حاله إنه مات وارتاح. أما أنا، كنت أموت باليوم ألف مرة.
بس يسكّر هيدا المركز، ما بعرف لوين بدي روح… بيتي راح، ومنّي زعلانة. الحمد لله إنه ولادي بخير، وزوجي جوزي بعده فوق راسنا، واقف حدّنا. والحمد لله، كل شي تاني بيتعوّض'.
راغدة
امرأة في السادسة والعشرين من العمر، لاجئة سورية، وأم لولدَين، وهي تعشق البحر.
عاشت راغدة، 26 عامًا، في محافظة إدلب في شمال غرب سوريا وهربت من الحرب في بلادها إلى لبنان في العام 2013. تزوجت وأنجبت ولدين في لبنان، لكن مع مرور الوقت باتت حياة اللاجئ في لبنان مكلفة وخطرة. وكانت الحرب في لبنان القشة التي قصمت ظهر البعير بالنسبة لها ولزوجها، فقرّرا العودة إلى سوريا قبل أيّام فقط من وقف إطلاق النار.
'أنا من محافظة إدلب، شمال غرب سوريا. نزحت على لبنان بالـ2013، وكان عمري تقريبًا 14 سنة لما أهلي راحوا على لبنان بسبب الحرب بسوريا. وهلّق عمري 26. يعني الفترة اللي قضّيتها بلبنان لحالها بتكفّي إنّه صير إعتبره بلدي التاني.
يعني هلّق صح أنا بسوريا، بس عندي حنيّة كبيرة للبنان، مع إنه عانينا كتير. منحِنّ للأماكن اللي سكنا فيها. أنا تنقّلت كتير، وأنا متجوّزة، كل ما نلقط فرصة شغل أو شي، نترك ونروح على منطقة تانية. آخر شي طلعنا على ضيعة بكسروان، مطرح التلج وهالقصص. فكانت القعدة حلوة كتير هونيك، بس غالية كتير.
لما سكّنا بكسروان، كان في كتير إشيا ممنوعة على السوريين: كان ممنوع نطلع بعد الساعة سبعة، وممنوع نعمل تجمعات. بيحطّوا على السوريين قوانين، فنحن كنّا نلتزم بس غيرنا ما يلتزم. فيلي ما بيلتزم بيخرّب علينا. وكان كتير في عنصرية.
وعَدا عن إنه ما في مدارس للسوريين أنا ابني مثلًا هلق تقريبًا صار عمره 4 سنين ونص، ولا كنت حطّيته بروضة، ولا بقدر حطّه بمدرسة.
أوّل ما بلشت الحرب، عداكِ عن إنه غلاء الأسعار زاد طقّين، صارت العالم تخاف كتير. صار في نزوح على المنطقة.
وقت الجيش أخد زوجي كان ابني مريض. فأخدناه على المستشفى وحطّولوا دم، وعرفنا إنه بيفوّل. بس المستشفى ما قالولنا إنه في أدوية ما لازم ياخدها أو في بقوليات ما لازم ياكلها.
اضطرينا ندخله على المستشفى مرة تانية وكانت تكلفة اللية بالمستشفى حدنا 800 دولار. ونحن مسجّلين بالأمم المتحدة، بس ما بيطلع لنا شي. كانت المستشفيات كتير غالية فوق، فنضطر نروح على بيروت، وهيدا واحد من الأسباب اللي خلّتنا ننزل على سوريا.
بعد ما طلع إبني من المستشفى تاني مرّة قررنا ننزل على سوريا. فبعنا غراض البيت وضبّيت شنطتين وضبيت فيهن الأشيا اللي بحبها كتير وتيابنا أنا والولاد. وكنت جايبة ماكياج من لبنان وزوجي هاديني قنّينة عطر ببوكس على عيد الفالنتاين. وهيدي لسا ما كنت مستعملة وبقلب البوكس.
غراض البيت بعناهن بـ٣٠٠ دولار، بس إنه كان خلاص ما بقا نتحمّل. كانت أكتر سنة بتمرق هيك عَلى السوريين. ما بحكي عن حالي بس. فأكتر من حدا بعرفه رجع على سوريا. كانت العالم ضاجت وكرهت وملّت من العنصرية ومن الغلاء، وإنه ولادهن قعدوا كل هالعمر بدون مدارس. العالم ما بقا تقدر تتحمّل.
هلق رحلة الرجعة كانت خطرة لأن منطقة فيها حرب وما بيعرف الواحد بأي لحظة ممكن تضرب الطيارة وما منعرف حدا بالمنطقة. إنه إذا صار شي وين بدنا نهرب، وين بدنا نروح؟ كنّا خايفين وبنفس الوقت مشاعرنا مخربطة. لأن رايحين على دولة تانية، حتى لو هي بلدنا، بس ما عنا شي فيها. نزلنا بـ25 تشرين التاني/ نوفمبر 2024 قبل بكم يوم من وقف إطلاق النار بلبنان.
هلق كل شوي كان صاحب الباص عدا إنه بيتخلّق فينا، كان ياخد منا كل شوي مصاري وهاتي مصاري. طول الطريق ضلّينا عم ندفع.
بالآخر وصلنا على منطقة زوجي بجسر الشغور، بالقرى اللي جنب جسر الشغور بإدلب. حاليًا ساكنة مع حماتي بنفس البيت. أما التياب ما وصلونا تقريبًا لَبعد ١٥ يوم أو الشهر. ما كل التياب وصلوا، سارقين منن، حتى قنينة عطر زوجي هاديني ياها أخدولي العطر وتركولي البوكس.
الحياة هون غير وحاليًا ما عندي تأقلم، لسا شوي. حاليًا لسا عم نحاول نوجد نفسنا. أنا عم أدرس لكمّل باكالوريا، زوجي بدو يشتغل شغل جديد. أنا كنت خلصت صف تاسع بس رحنا من سوريا على لبنان وهلق بدّي قدّم امتحان الباكالوريا.
لسا ما عندي بيت هون، إنه ما معمرين وبدنا نأسس من الصفر. هون فينا نعمّر شي هون وولادي فين يروحوا على المدرسة. بينما بلبنان حسّيت حالي ما عم بعمل شي.
أكيد العنصرية اللي عاشها الإنسان مستحيل ينساها. مستحيل أنسى الحرب بهالسهولة، أو أنسى اللي صار فينا، أو أنسى كل شي. غيّرت شخصيتي من إنسانة متفائلة لإنسانة يائسة. مستحيل إقدر بسرعة، بدّي وقت كتير لحتى إقدر إرجع للإنسانة اللي كنت فيها وأنا طفلة قبل ما فلّ من سوريا أوّل مرّة. فبدّي وقت كتير لحتى إقدر إتذكّر شو كنت إحلم.
هلق في كتير قصص حلوة بتصير بلبنان. فبكل مطرح إلو ذكرى خاصة بالقلب بتضلّ، فعندي أشخاص تعرّفت عليهم. أحلى لحظة بالنسبة إلي كانت الروحة عالبحر. هلق صح رحت كم مرّة، بس إنه أحلى لحظة وقت روح عالبحر، بعمل كاسة متّة، بقعد عالبحر، هيدي اللحظة بنسى الدنيا وما فيها، أحلى لحظة.'
نور
امرأة تعمل في المجال الإنساني .
تزوجت نور البالغة من العمر 28 سنة في منطقة الحوش في جنوب لبنان في 8 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، بعد يوم من اندلاع الحرب. وانتقلت هي وزوجها للعيش في بيتهما الزوجي في منطقة البازوريّة المجاورة، إلّا أنّهما لم يقضيا فيه سوى فترة قصيرة بسبب الهجمات الإسرائيلية المتواصلة.
وفي نهاية الأمر، هربا من الجنوب وسكنا مع العائلة، فيما استمرّت نور بالعمل مع المنظمة الإنسانية. اكتشفت نور بأنها حامل لكنّها أجهضت خلال الحرب وفقدت منزلها أيضًا جرّاء القصف الإسرائيلي.
'أنا اتزوجت بـ8 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، نهار اللي ولعت فيه الحرب على غزّة. العرس كان بالحوش، الحيّ اللي تربّيت فيه بصور. كانت أحلى ذكرى… وآخر ذكرى من الحوش.
نحن كنا محتارين إذا منروح على شهر العسل أو منبقى. كنا حاجزينه ودافعينه مسبقًا، والوضع كان مش مستقر. آخر شي قررنا نروح، ورجعنا بـ21 تشرين الأول. هيدا كان أول يوم لإلي بالبيت الجديد بالبازوريّة، ضيعة قريبة من صور.
بعد كم يوم، بلّشت تصير بالبازوريّة عمليات اغتيال لأشخاص. كنت حسّ دايمًا بقلق، وما كنت نام بالبيت. صرت حسّ إنه بأي لحظة ممكن تولع الحرب ونضطر نفلّ. فانتقلنا على صور، على بيت أهل زوجي. وبنهاية كل أسبوع، كنت أطلع جيب تيابي لبقية الأسبوع كرمال الشغل.
بـ23 أيلول/ سبتمبر، بس بلّشت إسرائيل القصف القوي، صارت العالم تضبّ غراضها وتهرب. كان معي بس ٤ غيارات للشغل. أوّل مرّة نزحت فيها، أخدت معي دهباتي. ما كانت قيمتن كتير، بس كانوا هدايا وبيعنولي كتير.
أنا بشتغل بالموارد البشرية بمنظمة إنسانية. ونحن، كمنظمة إنسانية وكمستجيبين أوليين بالحرب، ما فينا نكون قاعدين وما نعمل شي. كان في كتير شغل وخطوات لازم تتاخد.
المنطقة اللي كنا قاعدين فيها كانت كتير حلوة. كنا نقول إنه في كتير قصص حابين نعملها، حابين نروح عليها، وفي مطاعم منحب دايمًا نروح ناكل فيها… وما كنا نروح، لأنه عنجد النفسية ما كانت أبدًا حلوة. هيدي الطاقة ما كانت موجودة أبدًا، بصراحة.
أصعب شي إنه كنت بعيدة عن الكل. فرفقاتي المقرّبين مثلًا، ما شفت حدا منهن. أهلي كانوا بعاد عني شي 30 دقيقة، يعني ما كانوا بعاد، بس كنت قاعدة بمنطقة العالم كلا منا عايشة الشي اللي عم عيشه. عالم عم تجهّز لعيد الميلاد، وعالم لاحتفالات معيّنة، عالم ضاهرةضاهرا على مطاعم… وأنا بمطرح تاني. أنا بمساحة خيفانة، ما عارفة بكرا شو رح يكون، خايفة على بيتي وعلى عيلتي.
العالم فوق كانوا كتير مناح. كان في اختلافات ثقافية ودينية، بس كمان كان في تضامن. وقتها بلّش الطقس يبرد، وكلنا معنا تياب صيفية، فاتصلوا فينا من البلدية لأنه عالم عم تتبرّع بشالات وجاكيتات للمهجّرين.
كان في ضرب عطول بالبازوريّة، بس ما توقّعت إنّي إخسر بيتي. بـ١٠ أكتوبر/تشرين الأول، نهار اللي ضربوا بيتنا، كنت عم بشتغل من البيت. فجأة إجا لعندي زوجي وقلّي إنه ضربوا البازوريّة.
هلّق عادةً أنا فايته بمجموعة واتساب لأخباربغروب البازوريّة، اللي هني من الدفاع المدني، واللي بعدهن صامدين بالضيعة لحتى يبعتوا أي أخبار. وأنا بنفس الوقت كنت عم شوف عالتليفون على الغروب إذا في شي. فجأة، بنت إختو بتصرخ وبتقول: 'بيتي، بيتي!'
هني ساكنين تحتنا بالبناية، فدغري أخدت التليفون منّا لشوف شو شافت. شفت صورة يمكن واضحة إنه البيت، بس أنا كنت عم قول هيدي البناية مش إلنا، هيدي البناية التانية. ما صدّقت. وأنا كنت بعدني منّي مصدّقة لحد ما بعتوا فيديو.
الفكرة إنه كيف مبنى بـ١٢ شقة، ومقسّم على مربّعين، بصير على الأرض؟! كانت صدمة. الكل عم بدقّلي، أهلي عم بدقّولي، وأنا ما عم بحكي مع حدا. بكيت كتير… بكيت كتير.
نحن مشينا الساعة ٣ الصبح على الجنوب، بنهار وقف إطلاق النار. فوصلنا حوالي الساعة ٦ على صور. أوّل شي عملناه، شفنا شو صاير بصور. أنا بقول: يا ريت ما رحنا وشفنا الشوارع، لأن كأنّه مدينة أشباح. ما في حدا، بس في دمار.
قبل ما نوصل على البيت بشي ٥ دقايق، بلّشت غمّض عيوني كرمال ما شوف، وبلّشت إبكي. بقيت أنا قاعدة بالسيارة، ما نزلت. ما كان في شي أبدًا، ما كان في شي! ما بتقدري تعرفي أصلًا وين شقتِك، ووين غراضك، ووين بيتك. زوجي كمان صار يبكي.قبل ما نوصل على البيت بشي ٣ أو ٥ دقايق، بلّشت غمّض عيوني لما شوف، وبلّشت إبكي. بقيت أنا قاعدة بالسيارة، ما نزلت. ما كان في شي أبدًا، ما كان في شي! ما بتقدري تعرفي أصلًا وين شقتِك، ووين غراضك، ووين بيتك. زوجي كمان صار يبكي.
وضلّيت على فترة، وبعدني لهلق… بتذكّر، لأوّل مبارح، مرقت من حدّ البيت ودغري نزلوا دموعي. أنا جرّبت، بعد ما طلعنا أوّل مرّة، فتّش على غراض، وشوف إذا بقدر طلّع شي. فمثلًا، بلاقي لإلي تياب بعدها بالورق، بس مخزّقة، أو اتخرّبوا من الشتي والشمس.
هلّأ، أنا وقت كان عم بصير في كتير نزوح، أكيد كمصاري ومجوهرات، ما كانوا موجودين بالبيت. دايمًا كانوا معي، أو عند بيت عمّي، أو عند أهلي. بس تركنا إشيا غير بالبيت. وفي وراق الزواج لإلنا بعدهن هونيك. في هدايا كتير بتعنيلي، فكل زاوية بالبيت بتذكّرني بحدا. أنا، من وقت الخطبة، وكنت عم جهّز للبيت، كان كل ما يجي عيد ميلادي قلّهن لرفقاتي: 'جيبولي شي للبيت، ما تجيبولي شي لإلي'.
أنا كتير بتعلّق بالتفاصيل. في إشيا كتير بتعنيلي… أوقات، فاتورة مطعم بحفظها لأنه بتذكّرني، مثلًا، بتاريخ معيّن أو من شهر العسل. كل شي بيعنيلي. كل زاوية بالبيت، خصوصًا إنه ما لحّقت إتهنّى فيه. إذا بدّي عدّ، قعدت بالبيت كلّن على بعضن يمكن شهرين.
هلّق ساكنين عند أهل زوجي بصور. كانت صعبة القدرة على التأقلم واستيعاب الفكرة إنه خسرت البيت. وبنقهر أوقات من حالي لمّا ببكي على البيت، بينما في أرواح كتير راحت بالحرب. في عالم خسرت أهاليها وولادها وبيوتها وعيلها. في عيل انبادت كلّها وبطّلت موجودة. وبجرّب كون قويّة، إنه أنا منيحة ومبسوطة والحمد لله، بينما أنا عنجد متدايقة وخسرت كتير.
وكمان خلال الحرب، حبلت وروّحت. لمّا عرفت إني حبلى، كنت بين إنّه إبكي وبين إنبسط، لأنّي خايفة ما كون قدّ المسؤولية بسبب الحرب.
زوجي هوّي أكتر حدا تغيّر. قبل، كنّا نحب نضهر ونغيّر جو ونعمل قصص، هلق لأ. وأنا كمان لأ… بحسّ إنّه نحن هلق وجودنا مع العيلة. كلنا عم نحاول نخفّف على بعض، لأن منعرف إنّه نحن لهلق مش بأمان ومستقرّين. مش عارفين شو في لبعدين.
منفكّر إنّه يمكن بكرا، لمّا إرجع عمّر، ما رح إتهنّى فيه هلقدّ للبيت. فخايفة إرجع أعمله بطريقة حبّو كتير فيها وإتعلّق فيه، وبعدين إخسره. كمان، لهلق ما نحكى بالعمار… حتى بعد وقف إطلاق النار، في خوف.
شعور إنّه أنا بدي فلّ… كتير صعب. فكأنّ عم شيل روحي من جسمي، أو العكس. إنّه تاركه شي، بس بنفس الوقت بدّي آخد كل شي معي. بدّي روح على مطرح هوّي آمن، بس بالنسبة إلي، المطرح الآمن هو المطرح اللي أنا تركته'.
ليو
أم من سيراليون.
تبلغ ليو من العمر ٢٧ عامًا وهي أم لطفلة في الخامسة من العمر تعيش في بلدها الأم في سيراليون. أتت ليو للعمل في الأشغال المنزلية في لبنان قبل سنتَين وعندما بدأت إسرائيل قصف جنوب بيروت، لجأت هي والعديد من النساء الأخريات من مجتمع العاملات الأجنبيات للنوم على الأرصفة عند الواجهة البحرية. وأمضت ليو أشهرًا عدة في ملجأ يديره متطوّعون ومخصص للعمّال الأجانب، وهي تأمل اليوم إيجاد عملٍ جديد في التنظيف المنزلي.
'أعمل في تنظيف المنازل وفي 23 أيلول/ سبتمبر 2024، يوم بدأت إسرائيل قصفها المكثّف لبيروت، كنت منهمكة في عملي. اطلعت على أخبار الحرب على هاتفي.
كنت أتشارك شقة مع سبع نساء في الجندولين، وهو حيّ في جنوب بيروت. فعندما عدت إلى المنزل، رحنا نتشاور ما إذا كان يجب علينا الذهاب إلى العمل أم لا في اليوم التالي. بدأت أسمع أصوات القصف لكن ظننت حينها أنه بعيد.
وعندما بات القصف قريبًا أكثر، شعرت وكأنّ المبنى سينهار. كان المبنى يرتجف. هبّ الناس بالهرب وكنت في حالة هلع وبكاء. لم أعرف أين أذهب. فأنا من سيراليون ولم يمر على وجودي في لبنان السنتَين. لا أعرف مناطق عدة من لبنان ولم يكن لدي أي مكان آمن ألجأ إليه.
طلبت المساعدة من بعض الأشخاص لكنهم إمّا لم يفهموني أو طلبوا مني الابتعاد. كان بعض أصدقائي قد هربوا إلى منطقة الروشة على كورنيش بيروت. فتوجّهت مشيًا على الأقدام إلى هناك. وكنت أغيّر طريقي كلما رأيت دخانًا يتصاعد من القصف.
وفي طريقي إلى هناك، كنت أبكي وسجّلت شريط فيديو لإرساله إلى أهلي. وقلت لهم ’إن لم تروني مجددًا، فهذا هو السبب. هناك حرب‘'.
نمت على الرصيف في الخارج لبضع ليالٍ. ثم انتقلت أنا وبضع نساء أخريات من سيراليون إلى ساحة الشهداء، وهي ساحة عامة في وسط بيروت. لكن أمرنا الجيش بالمغادرة في صباح اليوم التالي. ثم عدت لأنام على الرصيف لليلة أخرى لحين أتى بعض رفاقي الذين يعملون في عرمون، وهي بلدة في جبل لبنان، لاصطحابي معهم.
لكنني كنت أسمع أصوات القصف في عرمون أيضًا فعدت إلى بيروت. توجهت للنوم على أرصفة الروشة. كان بعض الناس الذين رأونا هناك يذهبون إلى المحلات التجارية ويبتاعون المأكولات لنا. وأعطانا البعض الآخر المال. فهكذا عشنا في تلك الأيام.
بعد بضعة أيام، في أوائل شهر أكتوبر/تشرين الأول، أتى أشخاص من Goodwill Migrant Shelter التي أسسها متطوعون لبنانيون خلال الحرب، إلى حيث كنّا ننام. في البداية، عندما أخبرونا عن الملجأ، لم أشأ الذهاب. ظننت أنهم قد يختطفوننا، فلم أشأ الذهاب معهم. وظننت أنهم قد يقتلوننا لأننا أفارقة.
لكنّ المتطوعين من الملجأ أصرّوا بالقول إنّهم لا يريدون أذيتنا وإنّهم يريدون تأمين مكان آمن لنا. شعرنا بأنّهم طيبون وقررنا منحهم الفرصة.
جلبوا باصًا ليقلّنا وكنا في غاية السعادة عندما صعدنا في الباص. رحنا نلتقط الصور والفيديو. وعندما وصلنا إلى الملجأ، كدت أنسى كل المعاناة لأنّهم رحّبوا بنا وكانوا جِد لطفاء. لقد نظموا كل شيء لنا. فشعرت بأنه لا داعي للبكاء أو الشعور بالخوف أو الهلع بعد الآن.
كنّا أكثر من 200 شخص في المركز. مرحنا كثيرًا هناك! لعبنا ورقصنا واستمعنا إلى الموسيقى. وشاهدنا التلفاز أيضًا. وأمّنوا لنا الأكل. في البداية، كانوا يحضّرون المأكولات اللبنانية لكن عندما طلبنا المأكولات الأفريقية، أمّنوا لنا المكوّنات وتناوبنا على تحضير الأطباق.
في البداية، أردت مغادرة لبنان. لكن قررت البقاء. إذ علمت بأنّ هذه الحرب ستنتهي يومًا ما. فقلت في قرارة نفسي: 'يجب أن أتحلى بالصبر. فأنا هنا لكسب المال وسأتمكن من استئناف العمل مجددًا'.
في أوائل يناير/كانون الثاني ٢٠٢٥ -أي بعد أكثر من شهر على بدء وقف إطلاق النار- وجد لنا متطوعون من الملجأ منزلًا في برج حمود، شمال بيروت. أتشارك الشقة مع امرأتين. كلاهما لا تستطيعان العمل بسبب إصابات تكبدّتاها جرّاء العمل في المنازل. أما أنا فلم أجد عملًا بعد. تعرّفت على بعض العملاء الذين أمّنوا لي العمل لكن بعد إتمامي للعمل لم يدفعوا لي. أشكر الله على مساعدة المتطوعين لي. إنّهم يساعدوننا.
آمل أن أعمل أكثر في الصيف. أريد البقاء هنا في لبنان والعمل لفترة ثم العودة إلى بلدي لإكمال علمي. درست إدارة الأعمال في سيراليون لكن لم أستطع متابعة تخصصي بسبب الكلفة العالية. عانت أمي كثيرًا وقد منحني هذا الشجاعة الكافية للمجيء إلى لبنان. كان هذا كل ما أستطيع أن أفعله لأجلها، ولأجل أهلي، ولأجل إخوتي، ولأجل ابنتي سالي. إنّها في الخامسة من العمر. أردت أن أؤمن بعض السعادة لهم.
فقدت أمورًا كثيرة خلال الحرب. إذ فقدت أصدقاء لأنهم غادروا لبنان. وفقدت دفتر يومياتي الذي احتفظت به منذ وصولي إلى لبنان. اعتدت أن أكتب فيه كل يوم عن نشاطاتي وأسماء أشخاص وتفاصيل الاتصال بهم. أفتقد هذا الدفتر كثيرًا. لم يُدمّر المنزل حيث كنت أعيش لكنّ المالك رمى كل أغراضنا.
تعلّمت من تجربة الحرب التفاعل مع أنواع مختلفة من الناس من بيئات مختلفة. وتعلّمت الكثير من الأشخاص الذين يديرون الملجأ. لم يعاملونا بطريقة مختلفة عن معاملتهم للبنانيين. وكانوا مُشجعين لنا، دائمًا. أحب أن أكون برفقة الناس، إذ يمنحني هذا الطاقة.
زهراء
زهراء هي شابة في الواحدة والعشرين من العمر من بنت جبيل في جنوب لبنان. وهي تتابع دراستها في تصميم الغرافيك. هربت عائلتها من بيتها عندما هددت إسرائيل بقصف المنطقة وانتهى بها الأمر أن نزحت إلى العراق لمدة شهرَين حيث سكنت في كربلاء وهي مدينة في وسط العراق ومركز لمقامات دينية عدة لدى المسلمين الشيعة. وعلى الرغم من أن بيتها بات حُطامًا، إلّا أنّها عادت إلى بنت جبيل.
أشعر بأنه بانتظاري مستقبل مشرق وعليّ أن أسعى لتحقيقه. تعاني عائلتي الأمرَّين. لذلك عليّ العودة إلى بلادي وارتياد الجامعة والمضي قدمًا. أنا مصرّة على تحقيق ذلك'.
' نحن عنّا درج البيت أثري، كان جدي معمّره، وبيحمل فبيحمل كتير ذكريات. في كتير ذكريات. ربيت على هيدا الدرج، كل طفولتي هونيك. كنا نلعب عليه. وهو الدرج كلّو بوابات، وكلّو ملوّنينه بالطباشير. وياما واقعة، ومروحا إجريّي عليه.
كل ما فكّر ببنت جبيل، بتذكّر هالدرج.
نحن فلّينا من أوّل الحرب، يعني من سنة تقريبًا. كنّا نفلّ على بيت جدي بالجاموس ببيروت ونرجع، بس آخر شي، لما اشتدّت الحرب بـ23 أيلول/ سبتمبر 2024، فلّينا من بنت جبيل هونيك وما رجعنا.
البلد فضيت. كانت شي الساعة ٢ الظهر. قمنا ضبّينا غراضنا، ودقّينا لبيت جدي لنقلّن إنه هلق ماشين، هيك بحال في حال ما كان في إرسال، ما بينشغل بالهن كرمال ما يشغلوا بالهن.
علقنا على الطريق. ما حدا بيصدّقما بتصدّقي الحالة اللي كنا فيها. رعب.
وصلنا على الجاموس بالليل، وبوقتا صاروا يهددوا إنه بدهن يضربوا مناطق ببيروت. وتاني يوم رحنا على بيت خالتي بالشويفات، شرق بيروت. جدي كان مدبّر بيت بالجبل، فلما حذّروا إنه بدهن يضربوا الشويفات، ضبّينا غراضنا وبلّشنا نركض، وطلعنا على الجبل عالساعة ٢ بالليل.
قعدنا بالجبل خمس إيام، ورجعنا نزلنا عالشويفات. بيت جدّي بقيوا بالجبل. لأنه البيت فوق كان عجقة، فاضطرّينا نخفّف ونفلّ. فرجعنا لقينا مطرح تاني. رجعت خالتي وولادها حجزواحجزت على العراق. خالتي فلّت وقالتلهن: 'خلص، مأزمة كتير هون.' فقطعولنا خوالي تذاكرة طيران إلنا كمان وطلّعونا. طلعنا بـ٢٧ أكتوبر/تشرين الأول ٢٠٢٤.
رحنا أنا وإمي وخيي بس، والبقوي بقيوا بلبنان. إختي والبابا بقيوا. إختي مزوّجة وحبلةى، ما كان بدا تترك زوجها وتروح. والبابا بيقول بيقلّك: 'أنا بدي خطوة لقدّام صوب الجنوب، لوين بدكن تسفّروني؟'
أصعب شي بالحرب لما بلّشوا يبعتوا الخرائط بالقمر الصناعي. كان الجيش الإسرائيلي ينشرهن على السوشيل ميديا.
ما كنت متوقعة إنه بيتنا يروح، ولا ١٪. أبدًا، أبدًا! بيتنا بنصّ البلد، وبالـ٢٠٠٦ ما راح… هلّق بدو يروح؟! فكنّا مأمّنين، وما أخدنا شي معنا، لأنه مفكّرين إنه راجعين. متل ما كنّا نطلع وننزل طول السنة، كنّا حنرجع.
كان شعور ما بينوصف… إنه حدا يجي يقلّك بيتك راح. صعبة…
رجعت على لبنان بـ٢١ ديسمبر/كانون الأول ٢٠٢٤، وكان أصلًا ساري وقف إطلاق النار. ورجعت طلعت على بنت جبيل بـ٢٧ يناير/كانون الثاني، لأن ما في بيت نبقى فيه. عمته للبابا كانت مسافرة، وهيّ عندها بيت ببنت جبيل، فقاعدين ببيتها حاليًا بشكل مؤقت فقعدنا ببيتها.
ما حدا بالضيعة كان منيح. اللي ما راح بيته، راح شغله. واللي ما راح بيته ولا شغله، يعني عنده شهيد بالبيت قتلته إسرائيل.
كنت مبارح بالبلد، وعاجقة… يعني بتقولي بنت جبيل ما فيها شي. مليانة عالم، الكل رجع فتح مصالحه وشغله، وما في محل مسكّر. كنّا نخاف كتير بس يطلع الطيران الحربي أو يعملوايعمل جدار صوت. هلق عادي. كنّا قبل نحمل غراضنا ونهرب بس نسمع صوت. هلق لأ، رواق. تعوّدنا.
أكيد في شعور نقص يعني في نقص، بس عادي، بيتعوّض البيت. المهم نحن كلنا مناح. منقول إنه كان عندي ذكريات بهيدا البيت، وراح البيت، بس اللي عملوا الذكريات هو نحن. فمنعمل أحلى من هيديك الذكريات.'
ياسمينا
امرأة من بلدة الخيام في جنوب لبنان، في الثامنة والخمسين من العمر، ناشطة في العمل الاجتماعي، وهي مطلّقة وتُعيل أولادها الثلاثة.
مطلّقة وتفتخر بتمتّعها باستقلاليتها، وقد صمدت في بيتها لوحدها لمدة تسعة أشهر بالرغم من القصف المستمرّ. لكنّها غادرت أخيرًا للسكن مع أولادها في بيروت حيث اضطُرّت للهرب مرّات عدّة من القصف وانتهى بها المطاف في مبنى جامعي. لا يزال بيتها في الخيام قائمًا لكنّه تعرّض للنهب والتدنيس ولا تعرف ما إذا كانت ستتمكّن من العودة إليه يومًا ما.
'لمّا بلّشت الحرب، كنت عايشة لحالي ببيت أهلي بالخيام. أهلي متوفّيين، وأنا مطلّقة وعندي تلات ولاد ببيروت عم يدرسوا بالجامعات. كنت بقسّم وقتي بين الطبخ، والشغل، والركض كل الوقت تيضل كل شي ماشي. هيدي كانت عيشتي.
الخيام ضيعة كتير حلوة، كانت راقية، وشوارعها حلوة. كانوا يسمّوا الخط العام فيها 'باريس التانية'. البنات كانوا يكزدروا عليه، وكان دايمًا مليان حياة، زمامير، وضحك، وعجقة.
البيت في جنينة كبيرة، وكله حيطان حجر. لما يجي موسم الزيتون، كنّا نحوّش زيتون، وسماق. عندي ذكريات كتير بهيدا البيت، منها حلوة بتنبسطي فيها، وفي شغلات بتنقهري منها.
في شي بالخيام… إنه هي جذوري. هونيك بنبسط، لأن جيراني، وأهلي، ورفقاتي اللي عشت معهم عمر. عندي كتير معارف، بس الصحبة اللي عنجد بتنعد عالأصابع، هيديك اللي إلها قيمة عنجد.
أنا بقيت تسعة أشهر بالخيام، تسعة أشهر تحت القصف. أوّل شي، كان القصف يبلّش شي وحدة ونص، تنتين وطالع، وكان بعده بعيد عنّا… بعدين صار يقرب، وصرت حس البيت كلّه عم يرجّ.
صرت دوّر على قصص إلهي حالي فيها. بالليل كنت حطّ التلفزيون وإحضر 'باب الحارة'، أو إفتح اليوتيوب. شو في صبغات للشعر وخلطات، حطّ وأعمل شعري. ماسكات للوجه، كل يوم ماسك. بدّي إتسلّى، بدّي مضي وقت.
كانوا يقولولي الكل: 'تعي لعنا، تعي اقعدي عنا…' قلّن ما بقعد عند حدا، وما بسَلّم رقبتي لحدا.
أصوات الحرب كانت مرعبة. مرّة، قعدت بالجنينة لتلاتة الصبح، وأنا برا، والضرب قايم قيامته. كنت قول: 'يا رب، إذا صار شي، ما بدّي يلاقوني قطع تحت الردم مقطّعة. بدّي يلاقوني برا، قطعة وحدة'.
بقيت على هالحالة تسعة أشهر، وبالآخر قالولي أولادي: 'خلص، بدك تطلعي'.
ساقبت نهار نزّلت الأكل لأولادي، ووصلت على بيروت… وقامت العركة فوق بالجنوب. بالبداية، قعدت أنا وبنتي الكبيرة بالفوييه اللي ساكنة فيه بالليلكي، بالضاحية الجنوبية لبيروت. بس ما كمّلنا أسبوع، لأن إسرائيل بلّشت تهدّد الضاحية. أوّل ما طلعنا من البيت، كانت الصواريخ فوق راسنا. الفوييه اللي قاعدة فيه بنتي، آخر طابقين ضربوهم واحترقوا.
رحنا على شقة ببرج البراجنة، كمان بالضاحية، وما طوّلنا، لأنه دغري نزلوا الصواريخ فوق راسنا. هربنا على عين المريسة، قعدت شوي هونيك، والدنيا عجقة عالم عالطريق. رجعنا، وطلعنا عالحمرا، على بيت مليان عالم، ونمنا هونيك ليلة وحدة بس.
بعد كل هالشي، رحنا على الجامعة اللبنانية بالحدث، بضواحي بيروت الجنوبية. أنا وبنتي وولادي الباقيين قعدنا بسكن الجامعة تقريبًا لباقي فترة الحرب.
أنا ما كان مسمحلي قانونًا إقعد هونيك، فما كنت فيّي أطلع أو أتحرّك. بس ساعتها الشباب، الله يوجّهلن الخير، من الإدارة والسيكيوريتي، مرّقونا، وكانوا عنجد ظهر لإلنا. إبني وبنتي، لأنن طلاب بالجامعة، كان يقدروا يفوتوا ويطلعوا.
كنت قوم من الصبح، حضّر شو بدي أطبخلهن، ونقعد. كل الوقت نطلّع عالتابلت أو التلفزيون نتابع الأخبار. ما كان في شي نعمله… عايشين عأعصابنا. الضربات كانت تصير قدّامنا، ونشوف الدخنة. كل شي نشوفه مباشر. ولما يكون في تحذير، كنا ننزل نتخبّى بالطابق الأرضي.
كان في ناس من كل الأعمار. أهالي، ولاد صغار، كبار، وتلاميذ. وأنا، قد ما فيّي، كنت حبّ إبعد عن العالم…
أنا كنت شايفة صور الأقمار الصناعية، وكنت عارفة إنه قسم كبير من الخيام صار ركام، بس بيتنا بعده واقف. بس لمّا شفتو بعيني، كانت الصدمة بنوعية الأذية اللي أذوها. سرقوا البراد. خلعوا بواب الخزاين. التلفزيونات مقوّسين عليهن. وكان في ورقة معلّقة بسكّين عالحيط، مكتوب عليها: 'F**k Lebanon'.
ما زعلت عالعفش، ولا عالأغراض. بس البيت نفسه حامل ذكريات بيّي، وأمي، وإخواتي… لمّات العيلة، القعدة سوا، كله كان يعنيلي.
بعد الحرب، نزلت قعدت فترة مع بنتي بالفوييه بالليلكي. عزّلنا الفوييه لأنه كان كلّه رماد وريحة بارود. قعدت فيه تقريبًا شي أسبوع، لحدّ ما ودّوا ورانا عالشغل بالنبطية، وساعتها أمّنا هيدا البيت بالأجار.
إشيا كتير اختلفت. قبل، كنت عايشة ببيت كبير، فيه جنينة، وفيه حرية… كنت إطلع برا وما حدا يشوفني. هلّق، محصورة بأربع حيطان، وحاسة حالي مخنوقة.
بروح الصبح عالشغل وبرجع. ما عندي حياة اجتماعية، بس الكل هون من الجنوب، يعني كلنا بنفس المركب. والسؤال اللي دايمًا بينسأل: 'لوين بدنا نوصل؟' الحياة اللي عايشينها مش متل قبل. منرجع عضيَعنا؟ منرجع عبيوتنا؟ منضل هيك مهجّرين؟ ما حدا بيعرف.
بطلّع بوجوه رفقاتي… وحدة ابنها استشهد بالحرب، والتانية ابنها مفقود، وهي عم تنهار. عريس بنتي استشهد كمان. كل العالم ضايعة. ما حدا عارف لوين يروح، ولا شو يعمل. الفرحة راحت من عيوننا. ما عاد في فرح، في غصّة كبيرة. منعرف إنو في حرب ووجع، بس عزيمتنا، وإيماننا، ودم شعبنا رح يرجعنا عبيوتنا.
أنا مضطرة كون قوية، مضطرة ضَلني واقفة عإجريي، بس لأنه ما في سند. ما عندي زوج إتّكل عليه. مضطرة ضل قوية. مضطرة ضل كافح، لأن برقبتِي تلات ولاد، وما إلهم حدن غيري بهالدني. لازم ضلني مجمعة حالي، لأني إذا وقعت، كل شي بيوقع. ولما بكون لحالي، ببكي.'
روبير
مزارع وعاشق للحيوانات.
روبير، 49 عامًا وأب لخمسة أولاد، ه