اخبار لبنان
موقع كل يوم -أي أم ليبانون
نشر بتاريخ: ٧ تشرين الثاني ٢٠٢٥
كتب عيسى يحيى في 'نداء الوطن':
منذ مطلع الخريف، يتحوّل سهل البقاع إلى ساحاتٍ مفتوحة لعشاق الصيد البري، ومع بزوغ فجر كل يوم، يتردّد صدى الرصاص من أطراف القرى حتى أطراف الجبال، وكأن الصيد موسمٌ للحياة نفسها، فبعد انقضاء الصيف وعودة الطيور المهاجرة، يبدأ المشهد السنوي الذي لا يغيّبه قانون ولا غلاء ولا تحذيرات بيئية.
يُعدّ الصيد البري من أقدم الهوايات في لبنان، خصوصًا في البقاع وعكار والجنوب، فمع حلول الخريف، تبدأ الطيور المهاجرة من السمان واليمام إلى الفري والبط البري والمطوق بالعبور فوق السهول والوديان، فيتأهّب الصيادون لاقتناص فرصتهم السنوية. حيث تحوّلت هذه الممارسة بمرور الزمن إلى جزء من التراث الشعبي، يتوارث الأبناء عن آبائهم حبّ البنادق، ومعرفة أنواع الطيور، وأوقات هجرتها. وغالبًا ما تتحوّل رحلة الصيد إلى لقاء اجتماعي، يجمع الأصدقاء والأقارب حول النار وشواء الطرائد في جوّ من الألفة والفرح.
يقول أبو حسين، أحد الصيادين المخضرمين من بعلبك إن 'النزلة عالصيد أهم من الأكل والشرب، من دونها بحسّ حالي محبوس'. يضحك وهو يحدّق في بندقيته القديمة التي رافقته منذ عشرين عامًا، مضيفاً: 'طلقة الخرطوش صارت أغلى من الخبز، بس ما فينا نترك الصيد، لو نبيع شي من البيت منشتري الخرطوش'.
تقدَّر كلفة الصيد اليوم بمبالغ غير بسيطة، فثمن علبة الخرطوش ارتفع إلى ما يقارب النصف مقارنة بالعام الماضي، وبات سعر العلبة الواحدة لا يقل عن 18 دولارًا فيما يصل سعر الصندوق إلى 180 دولارًا. وفي حسبة بسيطة يحتاج الصياد الذي يتردد يوميًا إلى السهل حوالى نصف صندوق، في ميزانية خيالية، وسط تراجع القدرة الشرائية للمواطن اللبناني. ورغم ذلك، يفضل كثير من الصيادين التخلّي عن كماليات حياتهم اليومية على أن يتخلّوا عن رحلة الصيد الأسبوعية.
'هيي مش بس هواية، هيي راحة نفسية وهروب من همّ الحياة'، يقول علي، شاب من بعلبك يأتي كل عطلة أسبوع إلى السهل مع أصدقائه، ويضيف: 'مننسى كل شي لما نسمع صوت الطير ونشوف الرصاص يضرب'.
وتبقى المفارقة أن وزارة الداخلية كانت قد أصدرت قرارًا بمنع الصيد البري هذا العام، استنادًا الى كتاب وزارة البيئة لحماية الطيور المهاجرة، غير أن القرار بقي حبرًا على ورق. فغياب الرقابة في معظم المناطق، وضعف حضور القوى الأمنية في الجرود، جعلا الصيادين يتصرّفون كأن شيئًا لم يكن، ويقول أحدهم ضاحكًا: 'القرار للمدينة مش للجرود، نحنا منعرف وين منروح وكيف منخبي حالنا'.
في العمق، لا يمكن النظر إلى الصيد فقط كهواية للترفيه، فالكثير من اللبنانيين، يجدون فيه وسيلة للهروب من ضغوط الحياة اليومية، وغلاء المعيشة، وضيق العمل. فالصيد بالنسبة لهؤلاء ليس مجرّد متعة بل استعادة لشعور مفقود بالحرية والسيطرة، في بلدٍ يشعر فيه المواطن بالعجز أمام واقعه الاقتصادي والسياسي. من هنا، يمكن فهم التعلّق الشديد بهذه الممارسة حتى في ظل الغلاء والمنع، فالرجل الذي يحمل بندقيته ويخرج إلى السهل مع بزوغ الفجر، يشعر أنه يملك زمام يومه، بعيدًا من الفوضى والقلق.
ويلاحظ أن الصيد لم يعد مقتصرًا على كبار السن أو المتمرسين، بل أصبح ظاهرةً متجدّدة تشمل الشباب أيضًا. فمع وسائل التواصل، صار كثيرون يوثقون رحلاتهم ويشاركونها على الإنترنت، لتتحوّل الهواية إلى مساحة للتباهي والتواصل الاجتماعي. كما أن مجموعات الصيد باتت تشكّل عائلة صغيرة تجمع الأصدقاء حول طاولة القهوة الصباحية، وحوارات الحياة والسياسة والنكات.
لكن في المقابل، هناك من يرى أن الصيد في لبنان خرج عن معناه الأصلي، فبدلًا من أن يكون فنًا يعتمد على الصبر والمهارة، تحوّل أحيانًا إلى استعراضٍ للسلاح والقدرة، لا يخلو من العشوائية والتجاوز. البعض يطلق النار على كل ما يتحرّك، والبعض الآخر يستخدم الصيد كذريعة للتسلح والتنفيس، ما يفقد الهواية معناها الإنساني والبيئي.
غير أن هذه المتعة لا تخلو من مخاطر، فغياب التنظيم وارتفاع عدد البنادق غير المرخصة يؤديان أحيانًا إلى حوادث مؤسفة، تسجَّل كل عام إصابات وحتى وفيات نتيجة إطلاق النار العشوائي أو الإهمال. ومع ذلك، لا يبدو أن هذه الحوادث تُثني الصيادين عن نزلتهم الأسبوعية.
وفيما يواصل الصيادون مغامرتهم بين السهل والجبل، يبقى صوت الرصاص في البقاع ليس مجرد أزيز، بل نبض ناسٍ يبحثون عن فسحة حياة، ولو بين جناحي طيرٍ هارب.











































































