اخبار لبنان
موقع كل يوم -نداء الوطن
نشر بتاريخ: ١٠ نيسان ٢٠٢٥
لشهر نيسان رمزية خاصة في تاريخ زحلة. إذ تستعيد المدينة بعد ست سنوات من انطلاقة شرارة الحرب اللبنانية الطويلة، ذكرى حصارها الذي دام تسعين يوماً في شهر نيسان أيضاً. رسخ هذا التاريخ في كيان زحلة، التي لم تصمد أمام الاحتلال ثلاثة أشهر فقط، إنما 24 عاماً، وانتصرت يوم خرج الجيش السوري من لبنان، في نيسان عام 2005. لم يكن صمودها تفصيلاً تاريخياً، بل كان ألماً للمحتل، لم تخضع، وهذا ربما ما وضعها في عين العاصفة.
منذ عام 1975 عرفت زحلة جولات متقطعة من المناوشات التي حاولت محاصرة المدينة المسيحية الكاثوليكية الأكبر في الشرق في زاوية محافظتها ذات الأغلبية المسلمة. لم تكن مقاومتها حينها منفصلة عن مواجهة مخططات توطين الفلسطينيين. إلا أن ما لم يُحسب له حساب وفقاً لرئيس البلدية أسعد زغيب 'أننا أصبحنا في وسط حرب ستستنزفنا لسنوات طويلة'. فنشأت منذ ذلك الحين خطوط الدفاع الأولى عن المدينة بين أحيائها في حوش الأمراء، المعلقة، الحمّار، المدينة الصناعية ووادي العرائش. إلى أن انكشفت مخططات الجيش السوري للسيطرة العسكرية على زحلة، فتحولت كل أحيائها إلى حالة دفاعية.
زحليون وسط الدبابات السورية
لا يمكن الحديث عن توازن للقوى في الحرب التي فرضت على زحلة في العام 1981، حتى بعد أن تدفق مقاومو 'القوات اللبنانية' وقياداتها لمواجهة المخططات بعزلها. وانطلاقاً من هنا صارح قائد 'القوات اللبنانية' آنذاك بشير الجميل 'الرفاق' قائلاً: 'استمراركم في المقاومة سيعني أنكم قد تبقون بلا ذخيرة، بلا خبز وبلا ماء'. لم يتوقع بشير أن تخذله زحلة، فاختار الزحليون الموت جوعاً على الاستسلام. انتفضت المدينة لكرامتها ومضت بملحمة صمودها حتى النهاية. ولم تجُع.
يقول الأستاذ المؤرخ سامي بريدي 'أبدى الزحليون من البطولة والشجاعة ما أخاف السوريين. كان الشباب يرمون بأنفسهم على الدبابات ليزرعوا القنابل في وسطها'. روايات كثيرة تتردد على ألسنة المقاتلين والأهالي، من قواتيين أو من التجمع الزحلي العام، عن بطولات وسرديات كانت تسير على وقع أناشيد زادت من حماس الشباب واندفاعهم في الدفاع عن مدينتهم.
الصمود المحيّر
كانت الحرب التي خاضتها زحلة مع المحتل السوري شبيهة لتلك التي خيضت في الأشرفية. لكن وفقاً لريمون زغيب الذي كان حاضراً على جبهة البربارة حينها 'كانت معركتنا أصعب. لأننا حوصرنا من كل التلال' حاول المقاومون بداية منع تقدم الجيش السوري إلى تلال نيحا الواقعة على المقلب المقابل لـ 'تل شيحا' حيث يرتفع مقام تمثال العذراء، لكن القناصة المرابضين في الطابق الرابع من برجها العالي، صعبوا المهمة، وراحوا يتصيدون كل حركة للزحليين. وهذا ما جعل صمودهم محيّراً'. فكيف فعلوا ذلك؟
يروي سامي بريدي 'أن زحلة كانت متنبّهة لواقع الحصار مسبقاً، فقام متموّلون زحليون بتخزين المواد الغذائية بكميات جعلتنا ننعم لفترة بفائض منها'. ولما كانت المشكلة الكبرى كما يقول بريدي بالانتقال إلى المحلات لابتياع حاجياتهم، خصوصاً على بولفار المدينة، 'فتحت الممرات الداخلية في ما بينها، ما سمح بتأمينها من محل إلى آخر ومن دون أن يسلكوا الطريق العام'.
المواجهة بالخبز والعجين والشجاعة
التضامن الزحلي كان تعبيراً وطنياً عن وحدة سلاح زحلة الموجه إلى العدو الواحد. وعليه الكل في المدينة كان مقاوماً وعلى طريقته. فعندما انقطعت الرواتب يقول بريدي تأمنت من غرفة التجارة ومتموليها من رجالات زحلة الذين تركوا بصمة في الحياة العامة. حتى لا ينقطع الخبز طُلب من فرنَي صليبا ودروبي إنتاج كميات أمّنت حاجات كل أحياء زحلة، ولما تعثر الإنتاج سدّت الحاجة أكياس الطحين التي وزعها القواتيون على الأهالي، فبقيت رائحة العجين تفوح من كل بيت. أما عندما حوصر مستشفيا تل شيحا والمعلقة وُجد الحل بغرفة للطوارئ والعمليات الباردة استحدثت في الطابق السفلي لمبنى مستشفى خوري الحالي الذي كان مبنى غير مكتمل حينها. لم تكن المهمة سهلة وفقاً لريمون زغيب لكن المستشفى اشتغل، وكان هناك فضل في ذلك أيضا للأيادي الطبية البيضاء التي قاومت على طريقتها.
في كل حيّ كان هناك من اهتم بشؤون أبنائه. أما روح التضامن بين الأحياء الزحلية فيتحدث عنها هيكل أبو عبود الذي كانت مهمته مع شباب حوش الأمراء، الأقرب إلى السهل، تأمين منتجاته لكل زحلة، والحمدالله 'مرت على خير'.
لائحة سوريا السوداء بشباب زحلة
عندما انتهت الحرب وضعت أسماء 327 شاباً زحلياً على 'لائحة سورية سوداء' منعت عودتهم إلى المدينة، قبل أن يُعفى عنهم بموجب الحلّ الزحلي الذي وقّع في أيلول 1985 مقابل أن ينعم الجيش السوري بأجواء أكثر هدوءاً أمنياً في المدينة.
تنوعت تهم هؤلاء بين المقاومة بالسلاح، أو بخلق مقومات الصمود. هذا في وقت لم يبخل جوار زحلة أيضاً على أصدقائه المحاصرين في المدينة، فحافظت زحلة على علاقاتها الاجتماعية وبقيت بعض المنتجات تشق طريقها عبر القرى المجاورة، لا سيما من سعدنايل وتعلبايا وبر الياس.
حين صلّت زحلة في الظلام
شعر الزحليون بمسؤولية كل منهم تجاه الآخر أيضاً. ففتحت البيوت الآمنة ومراكز الإيواء أمام كل الملتجئين إليها. وفي جَمعات الخوف بقيت الأنظار ترتفع إلى برج السيدة على رغم مرابضة القناصين في وسطها. زاد تعبّد الزحليين للعذراء، بحيث يروى عن جيل من الفتيات اللواتي ولدن باسم ماريا.
لم تكن الظروف سهلة لا على الأحياء ولا على الضحايا. فيروي سامي بريدي كيف عمد الكهنة إلى الصلاة على الميت مع هبوط الظلام خارج الكنيسة، ليدفن ليلاً بحضور عدد قليل من الأشخاص حفاظاً على الأرواح الحية.
تنوع اللوبي الزحلاوي الضاغط أيضاً، بين وزراء المدينة وأساقفتها، وبين كهنة ورهبان مقيمين في بيروت، افترشوا طريق القصر الجمهوري، واعترضوا كل موكب دبلوماسي للمطالبة بفك الحصار.
خارجياً أيضاً برز دور للزحليين المغتربين في الضغط على مراكز القرار. ويتحدث رئيس البلدية عن 'وقع هذا الضغط في الوصول إلى توقيع عشرة أعضاء من الكونغرس بينهم جو بايدن الذي صار لاحقاً رئيسا للجمهورية على قرار حماية زحلة. وكان من حظ زحلة حينها أن يكون على رأس القنصلية زحلي هو السفير أنطوان شديد'.
لعبت الكنيسة أيضاً دوراً في فك الحصار، وحصل اتصال مباشر بين الأبرشية الكاثوليكية في زحلة وفي نيويورك، انتهى إلى تحديد خطوط حمر للحصار بالتعاون مع الكاردينال الأميركي 'كوك'، فاستحق الأخير تسمية شارع باسمه في زحلة لاحقاً.
حرية مؤجّلة إلى نيسان 2005
في حزيران 1981 نجحت الجهود الدبلوماسية والسياسية والحزبية والشعبية، بإنهاء الحصار على المدينة، ودخل الوزير الياس الهراوي على خط تطبيق الاتفاقية التي نصت على ترحيل الزحليين المقاتلين من مدينتهم، من دون أن تلتزم سوريا بالشق المتعلق بهذا الاتفاق. فبقي وجود جيشها دملة تسببت بتفجير الوضع الأمني مرات عديدة في المدينة، لا سيما خلال العام 1987 أي قبل توقيع اتفاق الطائف.
برزت خلال هذه المرحلة الحركة اللولبية لمطران المدينة المنتخب منذ العام 1983 أندريه حداد، حيث سعى - وفقا لمذكراته التي جمعها في كتابه 'أنقذتهم من العاصفة' - إلى إرساء هدنة أمنية مع الاحتلال السوري.
اختلاف الزحليين مع قراءة المطران لتلك المرحلة، ولّد تيارات سياسية قفزت إلى الواجهة بعد اتفاق الطائف، خصوصاً مع وجود العماد ميشال عون في المنفى والدكتور سمير جعجع في السجن، إلى أن كانت المصالحة التاريخية بين جعجع وحداد. فشكل لقاؤهما بعد 18 عاماً من حادثة تفجير مطرانية زحلة عام 1987 أبرز تجسيد لعلاج الذاكرة. ومنذ ذلك التاريخ استعادت زحلة إحياء الذكرى السنوية لشهدائها. لم يندم الزحليون على كل تضحية في الدفاع عن كرامتهم وحرية مدينتهم. لذلك تجدهم متمسكين بذكرى نيسان، لكن من دون أن يتحول ذلك إلى تمجيد للحرب. فبالرغم من الجراح التي خلفها الحصار، تتطلع المدينة إلى النهوض مجدداً، وتحرص على مكانتها كعاصمة للبقاع، ورافعة لراية الانفتاح والتعايش في وجه كل التحديات.