اخبار لبنان
موقع كل يوم -جريدة اللواء
نشر بتاريخ: ١٧ أيلول ٢٠٢٥
ترى، هل حاولت يوماً أن تنظر إلى وجهك في المرآة وأنت عائد إلى نفسك، بعد أن شيَّعت جثمانَ حلمٍ من أحلامك الجميلة، وقد بانت على ملامحك خيباتُك، أن تمسح دموعَ قلبك، وتمسِك يدك المرتجفة خوفاً وتهديها الأمان، وأن تهمس بينك وبين نفسك: «أنا كافٍ، أنا أقاوم، بإمكاني أن أبدأ من جديد، وأستمر في الحياة، لأغفر لنفسي، لأحتضن ضعفي، ولأفتح قلبي للفرح مهما بدا مستحيلاً أو بعيداً»؟
ترى، هل حاولت يوماً أن تهرب من كل هذا الزحام وأن تركن إلى الهدوء، أن تُغلق أبواب التوقعات والانتقادات، وأن تجلس مع نفسك بصمتٍ محب؟
ترى، هل حاولت يوماً وأنت في خراب روحك، أن تضع قلبك جانباً وتحتسي فنجان قهوتك بهدوء؟ أن تعترف بالضعف وتتوقف عن اللوم والمواجهة والتبرير؟
ترى، هل حاولت يوماً أن تطبطب على قلبك، أن تأخذ استراحة من فوضاك، من رغبات قلبك الملحّة ورفض عقلك الدائم؟ أن تختبئ من شعورك الذي يهدّدك يومياً بالإفصاح، ومن الاستماع الى كلمات جارحة أو لوم أو عتاب يُقال بقصد أو بغير قصد؟
ترى، هل جرّبت أن تتوقف ليوم واحد عن محاولات لا تجدي نفعاً، أن تمتنع عن كتابة رسائل لا تصل إلى من استعمروا قلبك ثم غيّروا عناوينهم، وعن انتظار يرهق الساعة؟
ترى، هل حاولت يوماً التوقف عن الكتابة التي تستهلك وقتاً وحروفاً وتستنزف مشاعرك، لتتلاشى تلك الحروف عند إهمالها؟
ترى، هل حاولت يوماً أن تجلس وأنت راضٍ بلا فكرة عن الغد، بلا ضغط من المستقبل، ولا حسرة على الماضي، فقط لتشعر بأنك موجود، وأن لحظة الحاضر كافية لتسعد، ولتغمر قلبك بالطمأنينة؟
ترى، هل حاولت أن تكتب لنفسك رسالة حب صغيرة، تحمل فيها عذراً لكل ضعفك، شكراً لكل صبرك، واعترافاً بكل ما تعلّمته من أيامك الصعبة ومن أخطائك؟
ترى، هل حاولت يوماً، وأنت تودّع ما توهمت أنه آخر حلم لك في الحياة، أن تتجه بقدميك المبتورتين إلى آخر الطريق، وأن ترى أمامك مضي آخر دقيقة، وانطفاء آخر شعور، أن تستسلم للفراغ الذي تخافه؟
ترى، هل حاولت أن تغلق عينيك لا لتنام، بل لتخفف من ثقل الرؤية، رؤية ملامح الراحلين، ومن آثار الطرقات التي لم توصلك يوماً إلى ما حلمت به؟
ترى، هل حاولت أن تمنح نفسك فرصة أن تكون بلا عنوان، بلا قيد، بلا تعريف يربطك بماضٍ لم يعد لك، وبمستقبل لم يحن بعد وبمجهول يرعبك؟
ترى، هل فكرت يوماً أن الفراغ الذي تخشاه وتعيشه اليوم ليس النهاية، بل مساحة بيضاء تنتظر منك أول حرف، وأول رسم وأول قرار؟
ذلك الفراغ الذي تراه خواءً، هو في حقيقته فرصة جديدة يولد منها كل معنى، كل بداية، كل حب صادق لنفسك أولاً. هذا الفراغ هو صديقك، هو مساحتك للتأمّل واكتشاف ذاتك. فيه تتجلّى قوتك؛ قوة الاستقلال عن كل ما رحل، وقوة البدء من جديد بلا أقنعة، بلا أوهام وبلا خوف.
فراغك هو نقطة بدايتك، هو فرصة جديدة ستكون اختيارك أنت، هو لحظة مميّزة ستصنعها بنفسك، بعيداً عن عبء الأحلام التي رحلت بلا رجعة.
هو مرآة سترى فيها نفسك بلا تزييف، سترى فيها شجاعتك وقدرتك وإصرارك على الاستمرار، على خلق معنى جديد، على زرع نور ينتمي إليك وحدك، ويضيء خطواتك القادمة في طريق لم يعد فيه مكان للخوف، بل للتجدّد والتقدم والحرية والسلام.
امنح روحك حقّها في الهزيمة وفي الفراغ وستعود أقوى، وألطف، وأنجح، وأكثر اتزاناً.
جنان العلي