اخبار لبنان
موقع كل يوم -أي أم ليبانون
نشر بتاريخ: ٢٥ تموز ٢٠٢٥
كتبت جوانا صابر في 'نداء الوطن':
ما بين الكتب والدفاتر، وما بين بوستات التحفيز على «إنستغرام»، يقف جيل كامل على مفترقِ طرق اسمه: «ما بعد الجامعة». هو الجيل الذي وُلد على هامش الحروب الصغيرة، وكبر وسط شاشات مضيئة، يُطالَب بأن يحلم، وأن ينجح، وأن يصنع مستقبله، فيما الأرض من تحته رخوة، والمستقبل ضبابي.
في ركن هادئ من إحدى مدارس بيروت الرسمية، جلستُ إلى ثلاثة طلاب في سنتهم الدراسية الأخيرة. لا تُشبه أحلامهم تلك التي كنّا نسمعها من أجيالٍ سبقتهم، لا لأنهم لا يريدون، بل لأنهم لا يعرفون كيف.
تبرق عينا رنا، حين تتحدث عن حبّها للفن والرسم، لكنّ صوتها يخفت فجأة حين تقول: «بفكّر أدرس تصميم غرافيكي… بس مين بدّو يوظّف؟ بلبنان بدي شي يطعمني خبز، مش بس يخلّيني عبّر».
تعرف رنا تمامًا أنّ الموهبة وحدها لا تكفي. بات عليها أن تختار بين شغفٍ قد لا يطعمها، واختصاصٍ جامد، يخنقها لكنها تضمن به فتات الأمان.
أما سليم، فكان أكثر حذرًا، حين قال: «أنا كنت مفكّر أعمل هندسة، بس فتّشت عالوظايف… ما في. رحت عالمستشفى شفت إبن خالتي الممرض، تعذّب كتير ليلاقي شغل، بس بالنهاية لاقى، ببلاد برا».
لا يُخفي سليم أنّه يرى مستقبله خارج الحدود، ليس لأنّه لا يحبّ بلده، بل لأنّ البلد، كما يقول، «ما عاد يحبّ شبابه».
وحدها نور، بدت كأنّها تمشي على حبل مشدود بين المثالية والقلق، وقالت: «أنا بحبّ التعليم، بحبّ إشرح، بحبّ الأطفال… بس بخاف صير أستاذة وبالآخر ما يكفيني معاشي لأعيل نفسي. ما بدي عيش عيشة أهلي».
تتحدّث نور عن مهنة التعليم كأنها قدس أقداس، لكنها تعرف أيضًا أنّ القداسة وحدها لا تدفع الإيجار.
ثلاثة وجوه، ثلاثة توجّهات، ثلاثُ رواياتٍ تختصر وجع جيل. ليس عاطلًا عن الطموح، بل هو عاجز عن تصريفه. ليس ضائعًا لأنه ضلّ الطريق، بل لأن الطريق غير موجود.
جيل الألفية لا يريد المستحيل، هو فقط يريد أن يطمئن إلى أنّ سنوات الجامعة لن تكون مجرّد استراحةٍ قبل السقوط. يريد أن يشعر بأنّه يُعدّ لشيء، لا لخيبة. لكن كيف يصنع الحلم في زمنٍ يعلّب الإنسان مثل منتجٍ في سوقٍ بلا مشترين؟
قد لا نملك اليوم الأجوبة، لكنّ هذه الأسئلة كفيلة بأن تُربك كل نظامٍ تربوي، وكل حكومة، وكل من يطلب من شباب خائف أن يُحقّق ذاته. وكيف له أن يحقّقها إن لم يعد يعرفها أصلًا؟