د. علي نعمة كتاباً أشجان الغربة وأحزانها

«إسترعى إنتباهي لافتة تشير إلى منعطف بعد مئتي متر يؤدي إلى بلدة «كفر كفرون»... إسم البلدة يوحي بأصلها السرياني أو الآرامي أو الفينيقي... اللغة العربية واللغة السريانية صنوان وشقيقتان»..

قلّما إستطاع كاتب أن يسرد لنا رواية فيها من الغنى الأدبي، كما فيها من الغنى العلمي. ذلك لأن الكاتب، كثيرا ما يكون محكوما، بالمنطلقات التي كان بدأها. فإذا ما نشأ نشأة أدبية، طغى عليه الإحساس الأدبي، ونمطه. وإذا ما نشأ نشأة علمية، نحا نحو العلوم، يريد أن يصبّها جميعا، في قالب عمله الروائي الذي ينصرف إليه. وهذا لعمري شأن كثير من الروائيين والأدباء، أو شأن كثير من الروائيين العلميين، قلّما كانت تجربتهم أن تنصفهم ثقافيا، بأخذ كل شيء بطرف.

د. علي نعمة وازى بين الأدب والعلم في ثقافته اليومية التي نشأ عليها. ما حالت مهنته العلمية، طبيبا، عن المتابعات الأدبية، ولا صرفته عنها، ولا احتجزته في مختبراتها. ظل منذ كتاباته الأولى التي ابتدأها، يوازي بين الأدب والفلسفة والعلم، والعلوم الإجتماعية. عرف أن يستفيد من هذه الكنوز المعرفية، أن ينسق من تجاربه معها، سردياته التي أغنى بها المكتبة الثقافية.

«د. علي نعمة. نشيد الزنزلخت. بيروت-2025: (188 ص. تقريبا)» (دار فواصل).

«منذ طفولتي، أعشق الطبيعة وأمارس المشي والسير في الجبال».

يستعيد لنا في عمله الروائي هذا، تجربة الغربة على ألسنة الحكواتيين في مقاهي القرى، التي ذاق أهلها طعم الهجرة وحرارتها. فوضع لها نشيد الزنزلخت، حتى يذكّر بمرارتها، ويذكّر بالتالي، بأيام الجوع في جبل لبنان، حين كان أهل الجبل الذين وقع عليهم الحصار التركي، يغلون الزنزلخت، يطبخونه، ويتجاوزون مرّه وعلقمه، حتى يستطيعوا أن يظلوا معاندين، متشبّثين بأكسير الحياة.

«في الجهة المقابلة لمبنى البلدية كان يربض في طرف الساحة الواسعة، مقهى».

قالب روائي مبتكر وشيّق، سكب فيه د. علي نعمة مواقفه الوطنية من الإغتراب القسري الذي فرض فرضا على أهل الجبل، وذاقوا فيه مرارة الزنزلخت، حين كان الدوار يأخذ برؤوسهم، وهم يقطعون الأسابيع والشهور في الوصول إلى الموانئ، التي سوف ترسو فيها السفن، وعلى ظهرها المهاجرون الذين ضاقت البلاد بهم، وضاقوا بها. وظنوا أن في المغترب، وطنا بديلا عن الوطن. فكانت تجربة د. علي نعمة الإبداعية في السرد.

«جاء من يهمس في الأذن... إن الحل بالسفر».

رواية رشيقة شيّقة هي «نشيد الزنزلخت»، تجاوز فيها الكاتب درب الأدب الذي تحصل له، أثناء عمله كطبيب. كان بالعافية كلها حين إختيار الأسلوب القصصي المسلي، الذي يجذب القارئ، بجاذبية التشويق، والذي حافظ عليه من أول الرواية إلى آخرها.

«وأطلق حسين المزنر بعد خطابه هذا ضحكة مجلجلة، تعمّد أن تكون طويلة».

يبتكر د. علي نعمة أسلوبه الروائي، ويجعله جاذبا. منذ إن إستقلّ سيارته التي تشبهه، إلى أن حطّ في المقهى، يرتشف قهوته، ويصغي إلى السكارى يروون على مسامعه، حكايا جيل من أهل الجبل، نكبتهم الحرب بنابها، فإختاروا درب الهجرة، ولكن سرعان ما عادوا مخذولين من غربتهم.

«فهم منهم أن المكسيك بلاد واسعة جدا، تقع بين الولايات المتحدة وغواتيمالا، وعاصمتها المكسيك».

جميع محطات روايته، كانت في مكانها، وأتت بمراحلها التي أرادها، وقدّمت لنا الشواهد الدالة على عذاب جيل من اللبنانيين، هجرتهم الحروب إلى الأصقاع النائية.

«عند إنتهاء هذا الكلام من حديث المقيم في البنسيون، إنفرجت أسارير كل من مطانيوس أبو رعيدي وحسين مزنر».

يتحدث د. علي نعمة، عن التآخي بين المهاجرين، على ظهر السفن التي أقلتهم، وفي النزل التي آوتهم. يتآخى الجميع، من بلدان الشام القديم، والعراق أيضا، على مختلف أديانهم وطوائفهم وبلدانهم، وكأنه يوحي، بأن الفرقة التي قالوا مرارة الزنزلخت منها، لم تكن إلّا «طبخة» إستعمارية. فهم حين يلتقون خارج البلاد، يعودون إلى إخوتهم، وإلى هويتهم الوطنية الجامعة.

«أحسست فجأة بألفة بالغة، تجاه هذا الشخص السكران».

يقرن د. علي نعمة بين عمله الأدبي، وبين عمله الفلسفي والإجتماعي والطبي، في سردية معرفية واحدة. ولهذا نرى فيها فائدة عظمى لغناها المعرفي، في الجغرافيا وفي الشؤون الإجتماعية، وفي حقول الأدب والطب، وهذا صنيع من يتقن الجمع بين الثقافات ويحسن صنيعه في وحدة الثقافة.

«أخذت فكرة العودة عند مطانيوس الى بلده تنضج رويدا رويدا، على الرغم من هول الصورة... الرجوع إلى الضيعة حاملا فشله».

عمل مشوق للغاية، هو عمل د. علي نعمة في السلسلة الجديدة التي يريد أن يتحفنا بها، فجعل المدخل إليها: «نشيد الزنزلخت». وهو قادر بما يمتلكه من إحساس عظيم بالوطن، ومن قدرة أدبية وعلمية، أن يسرد لنا نكبات هذة الأمة، التي إبتلاها الدهر بالمستعمرين، من أول العمر، في الجبل والساحل. فإستطاع الكاتب بإحساسه الدقيق، أن يصف لنا نجاحات أمته وخيباتها.

«كانت رحلة العودة... أشبه بطريق الجلجلة».

«نشيد الزنزلخت»، للدكتور علي نعمة: الأديب والفيلسوف والطبيب والمعالج الإجتماعي، إنما هو رواية كاملة الأوصاف الروائية. وهي بالإضافة إلى ذلك، تعمل على التأهيل الثقافي، لدى الأجيال المعاصرة، بمعاينة مكابدات أهلهم، الذين غابوا في البحر، وذاقوا من غربتهم عن بلاد الأرز، أشجان الغربة وأحزانها.

«كانت الطريق التي اعتمدتها للخروج من الضيعة، شبيهة بالطريق التي دخلت فيها إليها».

أستاذ في الجامعة اللبنانية