اخبار لبنان
موقع كل يوم -جريدة اللواء
نشر بتاريخ: ٢٧ أب ٢٠٢٥
نوال أبو حيدر
في خضم أزمة طاقة خانقة أرخت بظلالها على الحياة اليومية للبنانيين، وأصبحت رمزاً لعجز الدولة عن تأمين أبسط مقوّمات العيش، برزت مبادرة كويتية جديدة حملت بصيص أمل في نفق مظلم. فقد أعلنت وزارة الطاقة اللبنانية، عبر بيان رسمي، عن وصول أول ناقلة نفط إلى المياه الإقليمية، محمّلة بـ132 ألف طن متري من الغاز أويل، نصفها هبة مقدّمة من دولة الكويت، فيما يسدَّد النصف الآخر من عائدات جباية مؤسسة كهرباء لبنان، دون تحميل الدولة أي أعباء مالية إضافية أو ديون جديدة.
تأتي هذه الخطوة في لحظة بالغة الحساسية، حيث يعاني لبنان من شبه غياب للتغذية الكهربائية، في ظل بنية تحتية متهالكة، وغياب إصلاحات جديّة، واعتماد دائم على حلول خارجية وظرفية. وبينما تسجّل هذه المبادرة في خانة التضامن العربي الصادق، وخصوصا من دولة عرفت تاريخيا بدعمها للبنان في أحلك الظروف، تفتح في المقابل باب التساؤل عن مدى كفاية هذه الخطوة، ومدى قدرتها على إحداث فرق ملموس في واقع قطاع كهرباء مأزوم منذ عقود، غارق في الفساد وسوء الإدارة والعجز المالي. فهل يكفي الدعم الخارجي ولو بشكل مؤقت؟ أم أن الإنقاذ الحقيقي يبدأ من الداخل، عبر خطة إصلاحية شاملة تعالج الخلل البنيوي وتعيد الثقة بقطاع يعتبر من أبرز رموز الانهيار في البلاد؟
غياب الاستراتيجية الوطنية للطاقة: بين الهبات المؤقتة والحلول المستدامة
من هذا المنطلق، تؤكد الخبيرة في قوانين وحوكمة الطاقة المحامية لمى حريز، عبر «اللواء» أنه «حتى اليوم، لا تزال وزارة الطاقة والمياه في لبنان تعمل دون استراتيجية وطنية شاملة لقطاع الكهرباء، ما ينعكس مباشرة على استمرار أزمة الطاقة وانقطاع التيار الكهربائي بشكل مزمن. بدلاً من التقدّم بخطة متكاملة، تعتمد الوزارة على الهبات والتبرعات كحلول مؤقتة، دون إطار مؤسساتي واضح يضمن الاستدامة والحوكمة الرشيدة لهذا القطاع الحيوي».
وتتابع: «في الوقت الذي يُفترض أن تضطلع وزارة الطاقة، بالتعاون مع وزارة البيئة وتحت إشراف مجلس الوزراء، بمسؤولية إعداد استراتيجية وطنية متكاملة للطاقة، تشمل الأبعاد التقنية والبيئية والمالية، نجد أن الخطط ما زالت مجتزأة، وغالبا ما تُطرح بمعزل عن رؤية وطنية شاملة. المطلوب اليوم ليس مجرد مبادرات متفرقة، بل خطة متكاملة تُحدّد مزيج الطاقة المطلوب للبنان، سواء من الطاقة التقليدية أو المتجددة، وتضع خارطة طريق واضحة تتضمن مراحل التنفيذ والتمويل والمساءلة».
وعلى الصعيد نفسه، تعتبر حريز أنه «على الرغم من وجود معامل جاهزة للعمل على الغاز الطبيعي، لا يزال لبنان عاجزا عن الاستفادة من هذه الإمكانات، علما أن الغاز متوفر إقليميا وكلفته أقل بكثير من أنواع الوقود السائل المستخدمة حاليا. كما أن مشاريع الطاقة المتجددة، من شمسية وريحية، لا تزال محدودة ومنفذة بمعزل عن أي إطار تنظيمي وطني، ما يُفقدها أثرها الحقيقي على الشبكة العامة».
وتضيف: «إن الحلول الترقيعية لم تعد مقبولة. ما يحتاجه لبنان اليوم هو قرار سياسي جريء، يُلزم الجهات المعنية بإعداد وتنفيذ استراتيجية وطنية للطاقة، تُبنى على مبادئ الاستدامة، الشفافية، والشراكة بين القطاعين العام والخاص، وتنفّذ بإشراف مجلس الوزراء ضمن مهل زمنية واضحة. وحدها هذه المقاربة تستطيع أن تضع حدا لأزمة الكهرباء وتُخرج لبنان من دوامة العتمة والاعتماد على المساعدات».
أزمة طاقة مستمرة
وأمام كل تلك المعطيات، ترى حريز أنه «لا يمكن الحديث عن مستقبل مستقر لقطاع الطاقة في ظل هذا الواقع الهش. فعلى الرغم من أن إيرادات جباية فواتير الكهرباء متوفرة حاليا، إلّا أن هذا الوضع لا يمكن التعويل عليه طويلا. في حال وقوع أي أزمة اقتصادية أو اجتماعية جديدة، لن يكون بمقدور شريحة واسعة من اللبنانيين الاستمرار في تسديد الفواتير، ما سيُعيد عجلة الانهيار إلى نقطة الصفر. وبالتالي، لا يُمكن اعتبار هذه الإيرادات الحالية حلّا فعليا أو مستداما لملف الطاقة والفيول والكهرباء في لبنان، بل مجرد حل مؤقت قد ينقطع في أي لحظة، ما يؤكد الحاجة الملحّة لوضع استراتيجية وطنية متكاملة تعالج جذور الأزمة بدل الاستمرار في سياسة الترقيع والاعتماد على الظروف العابرة».
مصادر وزارة الطاقة: صفقة دعم مؤقتة
في سياق متصل، تقول مصادر وزارة الطاقة والمياه إن «ما تم الاتفاق عليه اليوم لا يُعد «هبة» بالمطلق، بل هو دعم مباشر عبر اتفاق محدد الكمية، ومن غير المؤكد ما إذا كان سيتكرر في المستقبل أو يبقى خطوة ظرفية مرتبطة بمرحلة معينة».
أما من حيث الكلفة، فتوضح أن «العرض المُقدّم يُعدّ أقل بكثير من أي سعر آخر مطروح في السوق، ليس فقط من ناحية القيمة المالية بل أيضاً من حيث التركيبة التعاقدية، فعلى نحو عملي، يحصل لبنان بموجب هذا الاتفاق على باخرتين من الفيول مجانا، ما يعادل تغطية نحو 50% من قيمة الكمية الإجمالية، وكأن هناك جهة ما قد قامت بتسديد نصف الكلفة نيابة عن الدولة اللبنانية».
وتتابع: «هذا الإطار يجعل من العرض صفقة استثنائية من حيث الشروط، لكنه لا يحسم بعد ما إذا كان نموذجا قابلا للتكرار أو توجّها طويل الأمد في الدعم».
صفقة بلا كلفة
ومن أبرز الجوانب الإيجابية في الاتفاق المتعلق بالفيول الكويتي، تشرح مصادر الوزارة أنه «لا يُرتّب أي أعباء مالية مباشرة على الخزينة اللبنانية أو على المواطن، إذ لن تموّل هذه الكميات من الأموال العامة ولا من الضرائب أو المساهمات الشعبية. بل إن مؤسسة كهرباء لبنان ستتكفل بتسديد الجزء المتوجب عليها من خلال الإيرادات التي تجبيها مباشرة من فواتير الكهرباء، ما يعني أن التمويل يتم من داخل القطاع نفسه دون تحميل الدولة أو الناس أي كلفة إضافية».
توفير بلا تدقيق
وتضيف: «هذا العرض لا يقتضي وضع معايير معقّدة لضمان شفافيتـه، إذ إن التركيبة نفسها كفيلة بعكس حجم الفارق والتوفير، فعندما يحصل لبنان على أربع بواخر من الفيول بسعر يُعادل عمليا ثمن باخرتين فقط، أي أن باخرتين تقدّمان مجانا، فإن المقارنة مع أسعار السوق تصبح بديهية وشفافة بطبيعتها».
وتشدّد المصادر نفسها على أن «هذا النموذج لا يحتاج إلى آليات تدقيق إضافية لإثبات أنه «أقل بكثير» من أي عرض آخر، لأن قيمة الهبة المضمّنة في الاتفاق تؤدي تلقائيا إلى خفض الكلفة الإجمالية بنسبة كبيرة، ما ينعكس بشكل مباشر على السعر النهائي ويُسقط الحاجة لأي تأويل أو تلاعب بالمقارنة».
ثقة كويتية متجدّدة
وتختم المصادر: «لطالما وقفت الكويت إلى جانب لبنان في المحطات الصعبة، وهذا الموقف ليس بجديد عليها ولا يُعدّ مفاجئا، بل يندرج في سياق ثوابت سياستها الداعمة للبنان وشعبه، أما دلالات هذه المبادرة الأخيرة، فتُشير بوضوح إلى أن الكويت بدأت تستعيد تدريجيا ثقتها بلبنان وبقدرته على التعافي والتعاطي المسؤول مع الدعم الخارجي، وهو ما يُعتبر تطورا لافتا في المرحلة الراهنة».
في المحصلة، يبقى ملف الكهرباء في لبنان رهينة للخطط الجزئية، والوعود القصيرة الأجل، والمعالجات الظرفية، من دون أي رؤية استراتيجية أو سياسية وطنية شاملة. وعلى الرغم من تكرار الوعود والخطط، فإن التنفيذ الحقيقي ظل غائبا أو مشوّها بفعل التجاذبات السياسية. وما زال المواطن اللبناني يدفع الثمن يوميا من راحته وأمواله، في ظل غياب أبسط مقومات الحياة. والأهم من ذلك أن هذه الأزمة المزمنة لن تُحل ما لم تُتخذ قرارات جريئة تُخرج هذا الملف من دوامة المصالح الضيقة نحو مصلحة الوطن.