اخبار لبنان
موقع كل يوم -وزارة الإعلام اللبنانية
نشر بتاريخ: ٧ تشرين الثاني ٢٠٢٥
كتبت الدكتورة فيولا مخزوم مقالا تحت عنوان “الإعلام في زمن الفقاعات الرقمية.. تفكّك الجمهور التقليدي أم ولادة الجماهير الصغيرة؟ ”، اعتبرت فيه إن تفكك الجمهور التقليدي ليس مجرد ظاهرة إعلامية، بل تحوّل اجتماعي وثقافي عميق، وجاء في المقال:
في العقود السابقة، كان الحديث عن 'الجمهور' يشير إلى كتلة اجتماعية واسعة وممتدة، تتشارك مصادر المعرفة نفسها، وتشاهد النشرات الإخبارية ذاتها، وتقرأ الصحف ذات الانتشار الوطني، وتتحلّق حول الشاشات في اللحظات المفصلية الكبرى. كان الجمهور — بالمعنى الكلاسيكي — جمهورًا واحدًا أو على الأقل متقاربًا، له أفق معرفي مشترك، ومساحة عامة واحدة يتفاعل ضمنها. لكن مع التحوّل الرقمي الهائل، وانفجار شبكات التواصل الاجتماعي، وتخصيص المحتوى عبر الخوارزميات، دخلنا مرحلة جديدة لم تعد فيها هذه الكتلة المتجانسة قائمة. لم يعد الجمهور 'جمهورًا' بالمفهوم الذي عرفناه، بل تحوّل إلى جماهير صغيرة، متفرّقة، مغلقة على مصالحها الرمزية ورؤاها، تعيش كل منها داخل فضاء مستقل، أو ما يمكن تسميته بـ فقاعة رقمية.
إن تفكك الجمهور التقليدي ليس مجرد ظاهرة إعلامية، بل تحوّل اجتماعي وثقافي عميق. لقد تغيّر شكل المجال العام نفسه. فبدلًا من أن يتلقى الناس الرسائل الإعلامية بطريقة خطّيّة، أصبحوا منتجين وموزعين ومؤثرين ومفسرين للمعلومات. وبذلك لم يعد الجمهور متلقيًا فقط، بل صار فاعلًا، ولكن فاعليته محكومة بتفضيلات خوارزميات لا نراها، تتحكم في ما نرى وما نسمع وما نعتقد أننا نختاره بحرية.
في هذا السياق، يمكن القول إن المجتمع لم يعد يتشارك الحقيقة نفسها، ولا حتى النقاش نفسه، بل أصبح يتعايش ضمن 'عوالم دلالية' مختلفة. فكل مجموعة صغيرة تعيد إنتاج واقعها الخاص، وتبني خطابها الداخلي، وتتشكل وفق هويّات جزئية. هذا ما يجعل الجماهير الصغيرة ليست مجرد مجموعات مختلفة، بل عوالم متباعدة.
إنّ ولادة هذه الجماهير الصغيرة لم تأتِ فجأة. لقد بدأت تدريجيًا مع تراجع الإعلام التقليدي وظهور الإعلام الاجتماعي التفاعلي. كانت الفضائيات أول من أدخل كسرًا في وحدة المجال العام، إذ قدّمت خيارات متعدّدة للرؤية والتحليل، لكنها حافظت على منطق 'الجمهور الكبير'. أما شبكات التواصل الاجتماعي فقد حملت التحوّل الأكبر، حيث ألغت مركزية الخطاب وفتحت المجال أمام كل فرد ليكون 'منصة' مستقلّة. وهكذا ولد ما يمكن وصفه بـ العصر ما بعد الجماهيري. هذه الجماهير الصغيرة تتشكّل اليوم وفق ثلاثة عوامل أساسية:
الاهتمامات المشتركة، حيث يصبح الانتماء إلى جماعة وفق ميول ثقافية أو ذوقية أو فكرية.
الأيديولوجيا الرقمية، أي مجموع القناعات التي تعززها الخوارزميات عبر تكرار المحتوى المتوافق مع ما نؤمن به مسبقًا.
هوية الذات الباحثة عن الاعتراف، إذ يبحث الفرد عن فضاء يوافقه ويؤكّد قيمه ويمنحه شعور الانتماء.
وهكذا، يتقلص المجال المشترك، ويتحول النقاش العام إلى حوار داخل الجزر بدلًا من حوار بين الجزر. لكن ما الذي يعنيه هذا التحول بالنسبة للإعلام؟
لم يعد دور الإعلام أن يخاطب جمهورًا واحدًا، بل أصبح عليه أن يفهم منطق الجماهير الصغيرة، وأن يتعامل مع تعدّد مراكز التأثير بدلًا من مركز واحد. وهذا يفرض على المؤسسات الإعلامية إعادة صياغة أساليب عملها، من نمط البث الجماهيري إلى نمط التفاعل المجتمعي المتخصص. وبالتالي، يزداد خطر الاستقطاب الحاد. فحين يتقوقع كل جمهور داخل فقاعة تشاركه الرأي، يختفي المختلف، وتصبح الآراء أكثر تطرفًا. هنا تتحول الشبكات إلى غرف صدى، وتصبح الحقيقة مسألة 'قناعة جماعية' لا 'معرفة موضوعية'. تتراجع السلطة المعرفية للمؤسسات الإعلامية الكبرى. فبدون جمهور موحد يتلقى رسائلها، تصبح المؤسسة الإعلامية واحدة بين آلاف الأصوات، ويغدو تأثيرها مرهونًا بقدرتها على فهم ديناميات الفضاء الرقمي.
وعليه، أنّ هذا التحوّل لا يعني بالضرورة انهيار المجال العام، بل إعادة تشكيله. فالجماهير الصغيرة قادرة أيضًا على إنتاج مساحات جديدة للنقاش، وعلى خلق أشكال جديدة من الديمقراطية الحوارية، إذا تمكّن الإعلام من إعادة اكتشاف دوره. فبدل أن يكون ناقلًا للخطاب من أعلى إلى أسفل، يمكنه أن يصبح جسرًا بين الجماعات المختلفة، محفزًا للتفاعل بدل الاستقطاب، ومساحة لتقاطع الرؤى بدلًا من انعزالها. ولكي ينجح الإعلام في ذلك، يحتاج إلى:
إعادة تعريف مفهوم المصداقية بحيث لا ترتكز على السلطة فقط، بل على الشفافية والقدرة على تفسير المعلومات وفهم سياقاتها.
إعادة بناء سرديات مشتركة تعيد للجماعات المختلفة القدرة على رؤية نفسها ضمن أفق عام واحد.
التحول نحو صحافة بطيئة ومعمقة تعيد الاعتبار للتحقيق والتحليل والتفسير بدلًا من الاستهلاك السريع.
إن تفكّك الجمهور التقليدي ليس مأساة، بل علامة انتقال تاريخي. فكل تحوّل في وسائط الاتصال أنتج أشكالًا جديدة من الاجتماع البشري. ما يجب أن ننتبه له اليوم هو أنّ الجماهير الصغيرة قد تكون فرصة كما يمكن أن تكون خطرًا. يمكن أن تبني فضاءً عامًا أكثر تنوعًا وثراءً، أو يمكن أن تغرقنا في عالم من الانقسامات المغلقة.
السؤال الحقيقي إذًا ليس: هل مات الجمهور؟ بل كيف نعيد بناء المعنى المشترك في زمن الجماهير الصغيرة؟. وذلك هو التحدي الجديد للإعلام، وللمجتمع بأسره.











































































