اخبار لبنان
موقع كل يوم -درج
نشر بتاريخ: ٢٠ تشرين الثاني ٢٠٢٥
يبدأ مسار منع الحرب المدمّرة بإعادة تعريف العلاقة بين 'حزب الله' وإيران وضبطها، بما يتوافق مع المصلحة اللبنانية المباشرة؛ فالارتباط الاستراتيجي بينهما هو العامل الرئيسي الذي يحول دون إقامة تسويةٍ داخليةٍ بين 'حزب الله' والدولة اللبنانية من ناحية، ويمنع الاستفادة من المبادرات العربية التي من شأنها توفير غطاءٍ إقليمي يخفّف من الاعتداءات الإسرائيلية – كماً ونوعاً –، غطاء مماثل لذلك الذي حظيت به دمشق من ناحية أخرى.
في ظل تفاقم التصعيد الإسرائيلي، سواء عبر الخطاب التهديدي أو الاعتداءات الفعلية، ثمة رهانٌ إسرائيلي متجدّد على تصاعد التفاعلات الداخلية في لبنان نحو تفجير حربٍ أهلية، سواء بين 'حزب الله' والأجهزة العسكرية والأمنية الرسمية، أو بين 'حزب الله' والقوى الطائفية المناهضة له، أو الاثنين معًا. وفي طلب رئيس الجمهورية جوزاف عون من قيادة الجيش اللبناني التصدي للتوغلات الإسرائيلية في المناطق الحدودية من جهة، وتأكيده انتهاء الدور العسكري لـ 'حزب الله' من جهة أخرى، رهانٌ مضادٌ على منع ذلك المسار، حتى لو تطلّب ذلك التضحية بجنود جيشٍِ شبه أعزل، غير قادرٍ بعد على مواجهة الجيش الإسرائيلي.
لكن بين التصعيد الإسرائيلي ومواقف عون المتعددة الأبعاد، يكمن رهانٌ آخر، تختمر بعض شروط تحقّقه بصمت. إنه رهانٌ ربما يجمع الاثنين في وقت واحد: اندلاع حربٍ أهلية سبق أن هدّد بها قياديون وإعلاميون في 'حزب الله'، وتحطيم مقومات إعادة بناء الجيش اللبناني في آنٍ معًا، بدءاً من الرهان على مفاقمة حالة الاستقطاب الداخلي ضمن الهيئات الحكومية والمؤسسات والأجهزة الرسمية. فلا قيامة لـ 'حزب الله' أو ما يعادله في الحسابات الإيرانية في ظل تمكّن الدولة اللبنانية ومؤسساتها من التحكّم في مسار العلاقات الخارجية وقرار السلم والحرب، بما في ذلك قرار التفاوض من موقع المصلحة اللبنانية البحتة.
وتكمن المفارقة في أن 'حزب الله'، رغم تقديمه نفسه في خطابه العام كحامٍ للسيادة ومدافعٍ عن استقلال لبنان، يعمل في الواقع من خلال بقائه قوة مسلحة خارج الدولة على تقويض سيادتها. ويدرك الحزب ومركز صنع قراره في طهران أن قيام الدولة اللبنانية، مهما بدت هزيلة، يشكل تهديدًا وجوديًا لاستمرار نموذج المقاومة الموازية لمؤسسات الدولة. وهذا الإدراك يفسر ذلك السعي المستمر والممنهج الى إبقاء الجيش اللبناني في حالة الوهن، بل حتى نزع الشرعية عنه، عبر اعتبار أمين عام الحزب نعيم قاسم انتشار الجيش اللبناني في مناطق جنوب الليطاني 'تنازلاً'، ليبقى 'حزب الله' هو الخيار الأوحد للجنوبيين. كما أن محاولات دفع الجيش اللبناني شبه الأعزل إلى التصادم المباشر مع إسرائيل المدجّجة بالسلاح في ظروفٍ غير متكافئة، تصب في هذا الإطار.
رهانُ إيران غير قابلٍ للتحقق طالما أن الجيش اللبناني يعمل على مراكمة القوة الذاتية ببطء، وترميم عامل الثقة داخل المجتمع اللبناني، وبخاصة في مناطق الجنوب، في انتظار أن تُفتَح له أبواب الدعم الموصدة. فاكتساب الجيش المزيد من الشرعية الشعبية يعني الفشل في مسعى الربط الاستراتيجي بين إيران ولبنان في أي حربٍ مفتوحة جديدة. في حين أن ضعف الجيش يعني تحويل لبنان مجددًا إلى ساحة حربٍ بالوكالة، تذوي فيها إرادة اللبنانيين تحت وطأة الحسابات الخارجية، سواء تلك الإيرانية التي تجد في لبنان جبهة دفاعية متقدمة، أو الإسرائيلية التي تجد فيه ساحةً لتصفية ما تبقى من الحسابات العالقة مع طهران. والفارق الجوهري بين حرب 2024 والحرب المحتمل اندلاعها مستقبلاً، سيكون أن الحرب الأولى كانت في سياق إسناد حركة 'حماس' بعد عملية 'طوفان الأقصى'، أما الثانية فستكون في سياق إسناد طهران، وفي الحالين لا حساب فعلي للمصلحة اللبنانية المباشرة.
كانت لإيران ورقتا قوة: البرنامج النووي و'وحدة الساحات'، وقد تفكّكتا في فترةٍ قياسية تحت وطأة الضربات الإسرائيلية والأميركية. لكن حين يعلو الصوت الإيراني مجددًا، مهددًا إسرائيل بالزوال وتلقّي الهزائم، فإن ذلك يعني أن المواجهة الآتية سيكون 'حزب الله' في صلبها، ولن يكون القرار في المواجهة لبنانيًا، بل إيرانيًا، كما في كل مرة على أية حال. فكيف يمكن الفكاك من الكماشة الإسرائيلية من دون تقديم الأضحيات المجانية لمصلحة إيران أو غيرها من القوى الإقليمية والدولية؟ هو سؤالٌ معقدٌ يحتاج إلى إجابة أكثر تعقيدًا.
تتطلب محاولة الفكاك بالضرورة مراجعة ذاتية جذرية لتوجهات 'حزب الله' ذاتها، التي ساهمت في تعميق هذا المأزق. فخيارات الحزب حتى الآن لم تكن كافية في مواجهة آلة الحرب الإسرائيلية، بل حتى إن مفعولها كان عكسيًا تمامًا. كما أنه لا يكفي حصر السلاح بيد الدولة، ولا تفعيل دورها في كامل الأراضي اللبنانية، أو بناء قدرات الجيش اللبناني وتبني استراتيجية دفاعية وطنية، فيما يتعمّق الانقسام الداخلي. ولا يكفي كذلك تفعيل الدبلوماسية اللبنانية، بل يجب على الدبلوماسية أن تضمن التوصل إلى حلول واضحة، وإعادة بناء العلاقات مع الدول العربية وتوطيدها، والاستفادة من جميع الوساطات العربية والدولية إلى أقصى حدٍ ممكن، والبحث عن ضمانات دولية لأمن لبنان حتى لو تطلّب ذلك بعض التنازلات السيادية التي يمكن تعويضها في ظروفٍ مستقبليةٍ أفضل.
والأهم من ذلك كله، التوصّل إلى تسويةٍ داخلية بين الدولة اللبنانية و'حزب الله'، تفرض على الدولة أن تبادر الى إعادة ترميم العلاقات الرسمية مع إيران على قاعدة الاحترام المتبادل، وعلى الحزب أن يبادر للتخلّي عن تبعيته للقرار الحربي الإيراني – تزامنًا مع التزامه بالتعاون الكامل لسحب سلاحه – من دون أن يتعرّض للخنق المالي التام أو تفقد إيران نافذتها الوحيدة إلى شرق البحر الأبيض المتوسط، حيث يُسمَح له بإعادة تفعيل بعض مؤسساته المدنية والاجتماعية التي لا تزال الدولة تعجز عن توفير بدائل حقيقية لها. وهي تسويةٌ يتهرّب منها الجميع حتى الآن. ومأزق هذه التسوية الحقيقي أنها تتطلب شجاعة سياسية من جميع الأطراف. فالدولة مطالَبة بتحمّل مسؤوليتها في تقديم بدائل حقيقية للخدمات التي يقدمها الحزب، بينما الحزب مطالب بالاعتراف بأن بقاءه كقوة مسلحة خارج إطار الدولة يهدد استقرار لبنان أكثر مما يحميه.
وإذا كان ربط الجبهة اللبنانية بجبهة غزة في الثامن من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 خطوة ذات أبعاد أخلاقية وسياسية يمكن البحث فيها، إلى هذا الحد أو ذاك، بصرف النظر عن نتائجها المدمّرة، وعن التمسك اللاعقلاني بها على رغم تحوّل الجبهة اللبنانية تدريجياً من جبهة داعمة إلى جبهة تحتاج إلى الدعم من دون أن تجد أثراً له، فإن الربط الاستراتيجي بين الجبهتين اللبنانية والإيرانية بعد عامين هو خطيئة لن يغفرها التاريخ، وما سينتج منه من تداعيات سيفوق وصفها بالمدمّرة، ولن يكون مجرد قرار تكتيكي، بل بداية تهديد وجودي للبنان، الذي تحول بدوره، إلى جانب العراق واليمن، إلى ضرورة وجودية لإيران بعد تعرّض برنامجها النووي لضربات قاسية.
لا يعود التصعيد الإسرائيلي والتلويح بحربٍ طاحنة جديدة الى إعادة بناء 'حزب الله' قدراته العسكرية، فهذه السردية مشكوكٌ بها إلى حدٍ بعيد، بخاصة وأن الحزب فقد الجزء الأكبر من شبكات الإمداد ونقل الأسلحة، ولم يعد بإمكانه إقامة مخيمات تدريب قتالية، أو حتى كشفية في أقصى شمال البقاع اللبناني، من دون التعرّض للقصف المباشر بالمسيّرات والطائرات الحربية. كما أنه فقد الجزء الأكبر من شبكات أنفاقه وتحصيناته الدفاعية في مناطق جنوب الليطاني، ومقاتلوه يتعرّضون للقنص بشكلٍ يومي وبدون أي رحمة، حتى لو كانوا في منازلهم أو سياراتهم بين أفراد عائلاتهم الذين يقعون ضحايا الاعتداءات الإسرائيلية أيضًا.
والأمر الذي يفاقم من هذه المعضلة هو أن 'حزب الله' أصبح أسير سرديته الخاصة. فبعدما روّج لسنوات لصورة 'القوة الردعية' التي لا تقهر، أصبح من الصعب عليه الاعتراف علنًا بمواطن ضعفه وخسائره من دون أن يدفع ثمنًا سياسيًا كبيرًا في الداخل اللبناني. هذا التناقض بين الواقع العسكري المتردي والخطاب السياسي المبالغ فيه يضاعف من عزلة الحزب، وبالتالي عزلة لبنان الذي أصبح مصيره مرتبطاً بمصير الحزب. فحرب الاستنزاف التي لطالما اعتمدها الحزب ضد إسرائيل، ها هي إسرائيل تعتمدها ضده بنجاحٍ كبير منذ نحو السنة. هذا بالإضافة إلى استهداف وتفكيك شبكات الدعم المالي العابرة للحدود، في أوروبا وغرب أفريقيا وأميركا الجنوبية. كل شيء يشير إلى تفوّقٍ إسرائيلي استراتيجي. وقد نجحت إسرائيل في قلب المعادلة وتحويل 'حزب الله' من طرف مستنزِف إلى طرف مُستنزَف.
وقد صرَّح رئيس الجمهورية جوزاف عون مراراً باستعداد لبنان التفاوض غير المباشر مع إسرائيل لإنهاء الحرب والاحتلال. وفي كل مرة كان الرد الإسرائيلي مباشرًا عبر اعتداءات وضربات جوية أو تحليق الطائرات الحربية فوق المقار الرسمية، بما في ذلك القصر الجمهوري في بعبدا. تحاول إسرائيل أن تفرض مفاوضات سياسية مباشرة، وليس فقط أمنية، ردًا على رسائل عون. فيما بدأت الصحف الأميركية في الترويج إلى أن 'حزب الله' يعيد تسليح نفسه بالصواريخ والأسلحة المضادة للدروع، حيث يصل بعضها عبر الموانئ اللبنانية، ما يمكن تفسيره على أنه تمهيدٌ مبدئي لقصف المرافق الحيوية اللبنانية أيضًا.
وفي الوقت ذاته، تشدد حكومة نواف سلام على أنها ماضية في نزع السلاح وتطبيق خطة الجيش اللبناني. عون يحاول احتواء 'حزب الله' وجمهوره على رغم دعوته إلى نزع سلاحه، وسلام يحاول تنفيذ الاتفاق الذي شُكِّلت على أساسه الحكومة، فهو علّة وجودها. غير أن هذين المسارين يتقاطعان حينًا ويتناقضان حينًا آخر، فمرونة عون وصلابة سلام تخلقان تفاوتاً في العلاقة بين الرئاستين. هذا التفاوت يخلق المساحة التي تتيح لـ 'حزب الله' التلاعب السياسي والمماطلة في تنفيذ الاتفاق وفرض رهانات بعضها غير مفهوم، فيما تتعاظم فاتورة الدم جراء الانتهاكات الإسرائيلية بذريعة عدم تنفيذ الاتفاق.
تشوب العلاقة بين سلام وعون ثغراتٌ عدة، ووصلت التوترات في العلاقة بينهما إلى أوجِّها في حادثة الروشة. ويتفاوت الموقف الرسمي من كيفية التعامل مع سلاح 'حزب الله'، فيما يتحد الجميع في موقفهم من الاعتداءات الإسرائيلية، وهو أضعف الإيمان وأقلّ المطلوب. إلا أن المشكلة الفعلية تكمن في ازدياد عزلة لبنان الدولية والعربية. فهو لا يغرد فقط خارج التسويات والمفاوضات الأمنية في المنطقة، بل يغرد وحيدًا خارج كل المشاريع الاقتصادية والجيوسياسية، وكأنه جزيرة معزولة عن محيطها بالكامل. والسبب الرئيسي هو ازدواجية السلطة، فكيف لبلد يمتلك جيشين، وسلطتي أمر واقع، ويمزقه خطابان متضادان بشكل كبير، أن ينخرط في مسارات إقليمية توفر له بعضًا من الاستقرار؟ وليس بالضرورة لتلك المسارات أن تكون أميركية أو إيرانية بحتة.











































































