اخبار لبنان
موقع كل يوم -جريدة اللواء
نشر بتاريخ: ١٨ تشرين الأول ٢٠٢٥
الدكتورة زبيدة الطيارة*
انطلاقاً مما جاء في الجزئين الأول والثاني لا يبدو أن أزمة تأمين المياه في لبنان مسألة نقص موارد مائية - مالية فحسب بقدر ما هي سوء استثمار الموارد المتاحة وغياب التخطيط المستدام. لذلك لا بد من اقتراح حزمة من التدخّلات العملية التي تراعي الإمكانيات المالية المحدودة، وتراهن على الكفاءة والتعاون بين البلديات والقطاع الخاص والمجتمع المحلي على التنظيم والابتكار وتُعيد الاعتبار للترابط بين التخطيط والتشغيل والمساءلة.
خطة ذكية لإدارة المياه في لبنان: قابلة للتنفيذ بقدرات مالية متواضعة
تقوم الفكرة الأساسية على استبدال الحلول المركزية المكلفة – كالسدود الضخمة ومحطات التكرير الكبرى – بشبكات محلية موزعة، تعتمد على الطاقة الشمسية، وإعادة استخدام المياه الرمادية، وتقنيات المراقبة الذكية - وتتألف هذه الخطة من ستة مسارات لإدارة المياه في لبنان وهي قابلة للتنفيذ بموارد محدودة قد تكون الطريق الأقصر نحو استعادة ثقة المواطن بمؤسساته، وضمان حقه في مياه نظيفة. هذه الخطة تسعى إلى تحقيق التوازن بين الحفاظ على الموارد الطبيعية وتحسين كفاءة استخدامها، بما يضمن تأمين المياه للأجيال الحاضرة والمستقبلية دون تحميل الدولة أعباء مالية باهظة.
1. شبكة «مياه محلية» بدل المركزية الثقيلة:
في المسار الأول (وبدل الاعتماد على خزانات وسدود ضخمة مكلفة)، يتم إنشاء شبكات محلية صغيرة تعتمد على: تجميع مياه الأمطار على أسطح الأبنية إما لتغذية الآبار المفتوحة (الرسم أدناه). وذلك بإلزام أو تحفيز من البلديات. مثلا لتعزيز هذه الخطة تقوم البلدية بإعفاء من الضريبة على مدى خمس سنوات للعقار الذي يعمد الى تركيب هذه الشبكة المحلية... الخ.
وإما بإنشاء خزانات أحياء مرنة (modular tanks) تركب بسرعة بأحجام صغيرة ومتوسطة. هكذا يصبح كل حي/ منطقة لدية قدرة مستقلة على تأمين جزء من حاجته. خزانات الأحياء الصغيرة (50–200 م³): (كلفته بين 5,000–15,000 دولار للواحد).
2. تحويل تسرّب المياه إلى مصدر دخل:
أما المسار الثاني فيتعلق بتسرّب في الشبكات والذي يُعتبر خسارة كبيرة، وهنا يمكن تركيب حساسات رخيصة (IoT) محلية الصنع أو مجمعة يدوياً لكشف التسرّب، ومن ثم إشراك الشباب/ الجامعات في صيانتها كجزء من برامج تدريب مدعومة دولياً. وهكذا يصبح إصلاح التسرّب فرصة عمل للشباب بدل كونه عبئاً. (كلفة حساسة التسرّب البسيطة IoT ≈ 20 – 50 دولارا للوحدة).
3. عملات مائية (Water Credits):
المسار الثالث تحفيذي فكل مبادرة أو حي يوفّر مياهاً أو يعيد تدويرها يحصل على «رصيد مائي» يمكن تداوله مع البلديات أو شركات المياه. وهذا يشجع المنافسة الإيجابية بين المناطق بدل الهدر وانتظار الدولة المركزية.
4. سدود ترابية صغيرة بدل مشاريع ضخمة:
المسار الرابع يعتمد إنشاء سدود ترابية بسيطة منخفضة الكلفة في القرى (مئات منها بدل سدّين أو ثلاثة فاشلين...). وهذا المسار له فائدتين أولا حجز المياه الجوفية وثانيا زيادة تغذية الآبار الطبيعية دون فساد في عقود بمليارات! (سد ترابي صغير (10–50 ألف م³) كلفته من 15–40 ألف دولار).
5. «بلوك تشين» لمراقبة توزيع المياه (مبتكر ورخيص نسبياً):
ان تقنية Blockchain هي آلية متقدمة لقواعد البيانات تسمح بمشاركة المعلومات بشكل شفاف داخل شبكة أعمال لتتبع المياه من المصدر للمستهلك. فالبلديات أو جمعيات ضمن المنطقة الواحدة تسجّل الضخ والتوزيع على شبكة لامركزية تمنع الفساد أو التلاعب و تردع الهدر والسرقة من الشبكة. (كلفت تطوير تطبيق «بلوك تشين» بسيط: 50–100 ألف دولار كبداية).
6. «مياه رمادية ذكية»:
المسار السادس يتعلق بتطبيق نظام بسيط لإعادة استخدام مياه الغسيل والاستحمام لري الحدائق والأراضي القريبة، بدل مشاريع معالجة ضخمة. وهي تعتمد على معالجة محلية ومرشحات حيوية «Biofilters» فلاتر رمل أو الكائنات الحية الدقيقة، مثل البكتيريا (تنتج محلياً بتكلفة قليلة)، لتحويل الملوثات الضارة في المياه إلى مواد أقل ضرراً، وهي تستخدم بشكل شائع في أنظمة الاستزراع المائي وأنظمة معالجة مياه الصرف الصحي للمنازل والشركات الصغيرة. وهذا ما يوفّر حتى 30% من استهلاك المياه المنزلية. (كلفة وحدات مياه رمادية منزلية: 300–600 دولار للوحدة).
مدى الاستفادة من هذه الخطة!
هذه الخطة لا تعتمد التمويل الكبير بل على حلول محلية سريعة، ومنخفضة الكلفة، إضافة انها تخلق فرص عمل عبر صيانة التسربات وتطوير وحدات محلية للمعالجة. الى جانب انها تستغل التكنولوجيا الرخيصة «بلوك تشين» و(IoT) لردع الفساد وتحقيق الشفافية (مثلاً لا أحد يستطيع أن يقول ضخت 1000م³ بينما فعلياً ضُخ 500 فقط.). تقليل الهدر فاليوم 40% من المياه تضيع بالتسرّب، كما يمكن استخدام «بطاقات ذكية» أو تطبيق بسيط للأحياء لتوزيع الحصص بشكل عادل. الأهم من كل ذلك انها لا تحتاج إنتظار الدولة المركزية بل تبدأ من الأحياء والبلديات. ومن المستحسن وضع خارطة طريق زمنية لهذه الخطة الذكية على مراحل زمنية قصيرة من 0- 6 أشهر من 6-18 شهرا ومن 18 الى 36 شهرا (جدول 3) ، وعلى ضوء نجاح المراحل الأولية يتم العمل بالمراحل اللاحقة... تكون فيها المرحلة الأولى تجريبية مثل تركيب خزانات أمطار، وحدات مياه رمادية، تركيب حساسات تسرّب وعداد للسدود الترابية الصغيرة مع تقييم لها في نهاية المرحلة الزمنية، وهكذا يتم الانتقال الى المرحلة الثانية ومن ثم الثالثة...
ان الفائدة من الخطة المقترحة تكمن بالدرجة الأولى في تامين المحاسبة المحلية فالمواطنون يعرفون كمية المياه الداخلة والخارجة، مما يمنع التلاعب ويخلق ثقة كاملة بين البلدية والمواطنين. ناهيك عن اتخاذ قرارات أسرع سواء بالنسبة لإصلاح التسرّب من خلال نظام مراقبة، سجل شفاف وتحكّم ذكي يجعل المياه أقل عرضة للسرقة أو الهدر، ويُحوّل إدارة المياه من عملية بيروقراطية ثقيلة إلى نظام حيّ وتفاعلي.
* أستاذة مادة الهيدرولوجيا
متقاعدة من الجامعة اللبنانية