اخبار لبنان
موقع كل يوم -المرده
نشر بتاريخ: ١٣ تشرين الأول ٢٠٢٥
كتبت دعاء عمرو في الأخبار:
قبل عام، كان آل عمرو قد استقبلوا في بلدتهم المعيصرة أقارب نازحين من صور وقانا فرّوا من جحيم الحرب، معتقدين بأن البلدة الواقعة في فتوح كسروان في مأمن من العدوان. غير أن القدر كان أقسى، إذ استهدف العدو مبنى ملأوا طبقاته الأربع، مرتكباً مجزرة مروعة ذهب ضحيتها 16 شهيداً من المدنيين.
عند الساعة 2:25 بعد ظهر يوم السبت 12 تشرين الأول، كانت سماح كنعان قد غادرت للتو المبنى المستهدف إلى منزلها الملاصق له، عقب لقاء عائلي احتفالاً بزواج وفيق، شقيق زوجها محمد. شرعت في تحضير طعام الغداء، بينما كان ابنها موسى يشاهد التلفاز.
كان محمد يستعد لإيصال مساعدات إلى نازحين في البلدة. توجه إلى الشرفة لإحضار ثيابه من «منشر الغسيل»، فناداه بعض الأقارب من شقة أهله المجاورة. آخر كلماته لسماح: «دقيقة وأعود. لن أتأخر»، وأخذ ابنه الأصغر عليّ معه… ورحل.
ثوانٍ قليلة مرّت على النظرة الأخيرة قبل أن يقع الانفجار الكبير. «محمد، يا ربّ»، نادت بصوت مرتجف، طلبت من موسى أن يحشر نفسه بين الخزانة والجدار، وألا يتحرك حتى تعود، وخرجت لتجد السواد والركام يغطيان المكان. «كنتُ آمل أن أجد محمد، وأن أمدّ له يد العون، ولكنّي لم أجد له أثراً».
أحدهم صرخ: «علي ما يزال حيّاً». حملت سماح طفلها إلى المستشفى، وفي الطريق كانت تتحسّس نبض قلبه، «لم أتوقّع أن يبقى على قيد الحياة من هيئته، وبرودة يديه، ومن عدم تجاوبه معي، لكن الله نجّاه». في الوقت نفسه كانت قلقة على مصير زوجها، وما إذا كان قد نجا.
وماذا عن أمه وفيقة، ووالده عبدالله، وأخواته صفاء وسيدة، وابنة سيدة سارة جعفر، وحسان فاضل وعلي كركي، وأقاربهم من آل شلهوب الذين نزحوا طلباً للأمان: رسمية وآلاء وأنوار وحسن وعلي الرضا شلهوب؟ وماذا عن فتحية مكي وفاطمة رضا وعلي جعفر؟ مثل «الفلاش باك»، استعادت مشهد الشقق المكتظة وتمتمت بأسماء قاطنيها جميعاً. دعت الله أن يحميهم، لكنّ أحداً منهم لم يخرح حياً.
كانت سماح لتكون بين عداد الشهداء أيضاً، لو لم يصرّ صغيرها على تناول الطعام في منزله. في بقائها على قيد الحياة، وجدت حكمة عميقة: «أن أخبر الناس عن الضحايا، ألا أنسى تجاعيد وجوههم، وضحكاتهم الصادقة، وأصوات قلوبهم، لأنهم فعلاً ليسوا أرقاماً عابرة».
بالنسبة إلى زوجته وأهل القرية، كان محمد شخصية مميزة؛ أسهم في تأسيس المعهد الفني في المعيصرة، وجعل كل ما يتعلق بالجغرافيا والخرائط والمساحات في البلدة محل اهتمامه. كان مسؤول قسم المساحة في اتحاد بلديات كسروان الفتوح، وأستاذاً متعاقداً في التعليم الثانوي، وشارك في عدد من النشاطات الاجتماعية والأعمال التطوعية. «كان حلمه أن يتعلّم الجميع، كباراً وصغاراً». واليوم، تواصل سماح تحقيق هذا الحلم، إذ تولت إدارة المعهد بعده، وتابعت دراسة الماجستير.
كانت العائلة في المعيصرة معروفة بحبها للعلم والسعي لنشره بين أبناء القرية. سيدة، شقيقة محمد، تركت أثراً عميقاً في نفوس من عرفها، بفضل عملها المتواصل في دائرة الصحة النفسية في الجنوب، وأنشطتها التطوعية، كانت تحضّر لرسالة الدكتوراه. يحمل ابنها هادي اليوم إرثها، رغم فقده والدته وأخته سارة وأهل والدته أمام ناظريه، استكمل دراسته الجامعية في عام المجزرة نفسه، ويتابع اليوم دراساته العليا. يقول: «كنت أتنقّل بين المحاضرات وأنا أحمل وجوههم في ذهني وصوت أمي في أذني يشجعني على العلم».
لا يفارق هادي مشهد الدمار في ذلك اليوم المشؤوم، ويتذكر كيف نهض من بين الركام، مخاطباً العالم أمام الكاميرا: «أهلي الآن جميعهم تحت الأنقاض، والحمد لله الذي اختارنا ومنحنا هذا الوسام». لم يكن كلامه عن عبث: «منذ اللحظة الأولى، أدركت أنّ عليّ أن أعيش كما أرادوا لي أن أعيش، مرفوع الرأس، ثابت الخطى، مؤمنًا بأن دماءهم لم تذهب هدراً».











































































