اخبار لبنان
موقع كل يوم -ام تي في
نشر بتاريخ: ١٥ تشرين الثاني ٢٠٢٥
في رحلة تأملٍ بين أسطر الإنجيل المقدّس، شدّني مثل الابن الشاطر، أو كما يسميه البعض الابن الضال، فكان بمثابة مرآة تعكس عظمة التوبة وحنان الله اللامتناهي. إنّه مثلٌ يكشف لنا عن قلب الآب الذي لا ييأس من عودة أبنائه، مهما عظُمت خطاياهم، بل وينتظرهم بفرحٍ يفوق كل وصف.كلّ مرة أقرأ هذا المثل، أكتشف فيه بُعدًا جديدًا، ودرسًا أعمق في مسيرة الحياة الروحية. يظهر لنا هذا النص الإنجيلي أن لذّة الخطيئة زائفة وسريعة الزوال، وأنّها تقود الإنسان بعيدًا عن مصدر الفرح الحقيقي، أي عن الله. الخطيئة، كفنانة ماكرة، تُغري وتُبهر وتستدرج، لكنها في النهاية تُسقط، لأن الشيطان الذي يقف خلفها لا يهدف إلا إلى هدم علاقة الإنسان بالله.في خضم هذه المعركة الروحية، ينبثق هذا المثل كضوءٍ في عتمة اليأس، يفتح أبواب الرجاء، ويرسم طريق العودة إلى حضن الآب، الجالس في انتظار أبنائه التائهين. كم من شابٍ أو فتاة سقط في شباك الشرير، فانجرف خلف حيله، وظنّ أن الرجوع مستحيل، لكن هذا المثل يأتي ليهمس في قلوبهم أن التوبة ممكنة، والرجوع مقبول، والرحمة أوسع من كل خطيئة.وليس الأب وحده هو المدعو إلى الانتظار، بل أيضًا الأهل، الذين كثيرًا ما يتسلّل إليهم الحقد والألم من تصرّفات أبنائهم، فيبتعدون عنهم بقسوة، بدلًا من أن يفتحوا لهم أبواب المحبة والصبر. إنّ مشهدية الابن العائد، تذكّر الآباء بضرورة أن يبقوا مصدر حنانٍ وغفران، لأن الرجاء يولد من محبة الأهل كما من محبة الله.شعور الإنسان بخطاياه هو الخطوة الأولى نحو الشفاء. لقد بدأت قيامة الابن الضال حين قال في قلبه:أقوم وأذهب إلى أبي، وأقول له: يا أبي، أخطأت إلى السماء وقدّامك (لوقا ١٥: ١٨).بهذه الكلمات المليئة بالندم والرجاء، أسقط الشيطان، وفتح لنفسه طريق الرجوع. هنا تتجلّى عظمة التوبة، وبهاء القوة التي يمنحها الله للتائب حين يرجع إليه بقلب منسحق.ولعلّ أجمل ما يلفت في هذه الأيام هو الصحوة الروحية التي نشهدها، لا سيّما بين فئة الفتيات، اللواتي تُظهرن جرأة روحية مبهرة، إذ يتقدّمن إلى سر التوبة والاعتراف، ويكشفن أمام الكاهن، بصدق وشفافية، عمّا اقترفنه من خطايا بالقول أو الفعل أو الفكر، رغبة في بداية جديدة.ولا بد من التأكيد هنا، على أن سرّ التوبة والاعتراف هو من أعمدة الحياة الروحية في الكنيسة الأرثوذكسية. وما يُردّد من إنكار لوجوده في تقليدنا ليس سوى دليل على جهل عميق، سواء من بعض الأرثوذكس أنفسهم أو من غيرهم.لقد أسّس الرب يسوع هذا السر بعد قيامته المجيدة، إذ قال لتلاميذه:السلام لكم. كما أرسلني الآب أُرسلكم أنا. ولما قال هذا نفخ فيهم وقال لهم: خذوا الروح القدس، من غفرتم خطاياه تُغفر له، ومن أمسكتم خطاياه أُمسكت (يوحنا ٢٠: ٢١-٢٣).بهذه الكلمات، سلّم المسيح رسله وخلفاءهم سلطان الحلّ والرّبط، بقوة الروح القدس، فصار الكهنة وكلاء رحمته، يسيرون مع التائبين على درب الشفاء والقداسة.إن سرّ التوبة ليس مجرّد اعتراف بخطايا، بل هو عودة إلى الله، وتجديد للعلاقة معه، وفرصة لولادة جديدة في الروح.مع دخولنا زمن صوم الميلاد فلنعد، مثل الابن الشاطر، إلى حضن الآب، لأنه وحده يُشبع جوع القلب، ويعيد لنا بهاءنا الأول، علّنا بذلك نستقبل المولود في بيت لحم بقلوب طاهرة.
وإن سقطنا نتيجة تراخينا يبقى باب التوبة مفتوحًا، لهذا قال لنا الربُّ: «أقول لكم: إنَّه هكذا يكون فرح في السماء بخاطئ واحد يتوب أكثر من تسعة وتسعين بارًّا لا يحتاجون إلى توبة» (لوقا 15: 7).











































































