اخبار لبنان
موقع كل يوم -المرده
نشر بتاريخ: ١٨ تموز ٢٠٢٥
كتب ناصر قنديل في 'البناء'
– بالتأكيد ثمة أبعاد كثيرة للضربات الإسرائيلية في سورية، خصوصاً بما يتصل بعقيدة الضفة التي تريد “إسرائيل” تطبيقها على لبنان وسورية، حيث يُسمح برئاسة ومقرّ وعلم ونشيد، شرط تثبيت معادلة السيادة لـ”إسرائيل” على الأجواء وعلى أي جزء من الأرض تقوم هي بتحديده، وهو في الضفة كل الضفة وفي سورية جنوب سورية وفي لبنان وغزة لا يزال قيد البحث، لكنّه محسوم في المناطق المتاخمة للحدود حيث يقع الاحتلال، لكن الشيء الأكيد أن المعادلة الاستراتيجيّة في سورية هي في جوهرها معادلة تركيّة “إسرائيلية” منذ اليوم الأول لسقوط النظام السابق.
– خلال الأسابيع الأولى التي تلت سقوط النظام السابق كان التجاذب على تحديد صاحب اليد العليا في سورية واضحاً بين أنقرة وتل أبيب، بعدما أوحت الزيارات المكثفة للمسؤولين الأتراك السياسيّين والأمنيّين والعسكريّين إلى دمشق، والتصريحات التي رافقت هذه الزيارات أو رافقت زيارات مسؤولين سوريين إلى أنقرة، أن تركيا تشكّل الحضن الاستراتيجيّ لبناء الدولة السورية الجديد ومن ضمنها بناء قوات مسلّحة كاملة التجهيز براً وبحراً وجواً، بالإضافة إلى معاهدة دفاع تركية إسرائيلية، وإقامة قواعد تركية ذات قيمة استراتيجية نوعية في الجغرافيا السورية منها رادارات ودفاعات جوية ومطارات وموانئ بحرية، وصناعات عسكرية.
– بالتزامن حملت هذه الأسابيع الأولى من عمر النظام الجديد في دمشق، حملة نارية مكثفة لجيش الاحتلال استهدفت مواقع ومقار وأسلحة الجيش السوري على مساحة الجغرافيا السورية، وفي توقيت لاحق ربطت “إسرائيل” قصفها لمطارات حمص وحماة بتحذيرات وجّهتها للقيادة التركيّة رداً على تصريحات بنيّة تركيا إقامة قواعد فيهما، وبناء قدرات دفاع جويّ ورادارات لصالح الجيش السوري الجديد، وكانت جلسات التفاوض التركي الإسرائيليّ في أذربيجان والوساطات الأميركيّة بين أنقرة وتل أبيب، محطات لتظهير مسار التجاذب وسياق تطوّره، حيث بدأ بوضوح أن تركيا تغلب في مواقفها المعلنة معادلات الحرص على عدم المواجهة، بينما تغلب “إسرائيل” في مواقفها المعلنة على مفهومها للأمن ورفضها المساومة عليه، وهو مفهوم استباق التهديد الافتراضيّ، بما يعنيه من الإمساك بجزء من الجغرافيا السورية، ورفض بناء قدرات عسكريّة سوريّة جدّية، وإبقاء الأجواء السورية مباحة أمام الطيران الإسرائيلي ودفع أي قواعد تركيّة الى الشمال على أطراف الحدود.
– في المفاوضات الإسرائيلية السورية وما تسرّب عنها في الصحف الإسرائيلية محاولات سورية للطمأنة عبر استعدادات سياسيّة، وتعاون أمني، مقابل تمسّك إسرائيليّ بترسيم خطوط حمر أمنيّة لحدود حرية الحركة الجوية والبرية التي يريد جيش الاحتلال الحفاظ عليها داخل الأراضي السورية، وقد ترافق ذلك مع اطمئنان سوريّ ناجم عن حجم الوعود الأميركية بأدوار إقليمية تراهن فيها واشنطن على حكومة تقودها جبهة النصرة في سورية وتستقطب القوة الحيويّة في الجهاديين عبر العالم، كما أظهر رفع الفيتو عن بقاء المقاتلين الأجانب ثم قبول توطينهم وتجنيسهم ودمجهم في القوات المسلّحة، وصولاً إلى الضغط على الجماعات الكردية التي رعتها واشنطن للانضمام إلى الدولة السورية الجديدة بشروط دمشق، وبالتوازي اطمئنان تركيّ من إيحاءات أميركية حملتها إشارات الرئيس الأميركي دونالد ترامب لبنيامين نتنياهو بضرورة مراعاة المصالح والحسابات التركية في سورية، ثم إعلان حل حزب العمال الكردستاني وإلقائه السلاح بتشجيع أميركي معلوم، وبمثل ما اطمأنت أنقرة ودمشق لواشنطن وضوابطها بوجه تل أبيب، ولدت التناقضات التركية السورية من ملامح سعي سوري للاكتفاء بالعباءة الأميركية والتخلّي عن الخصوصية التركية، وريبة أميركية من هذا السعي.
– في هذه اللحظة صمّمت تل أبيب رسائلها النارية المباشرة والمفخّخة، وبقدر ما كانت رسائلها المباشرة باستهداف المقرّ الرئاسيّ ومقرّ وزارة الدفاع في دمشق مدوّية وقاسية، كانت رسائلها المفخّخة في السويداء بإغراء طرفي الصراع بالتصعيد، بوهم الدعم لفصائل السويداء ووهم التسهيل للحكم الجديد في دمشق، حتى تحقق نهر الدماء الذي أرادته “إسرائيل” بينهما، وبنت عليه غاراتها على دمشق، ولكن عينها كانت على أنقرة، حيث إن المقار التي قصفت في دمشق هي مقار الدولة التي تتباهى تركيا بأنّها ترعاها وقد بنتها على مدى عقد كامل، وهي مقار السلطة الوحيدة في المنطقة التي تترجم مفهوم العثمانيّة الجديدة، ومهما كابرت أنقرة في الاعتراف، فإن ما جرى أعلن إسقاط العثمانيّة الجديدة، بمثل ما قال لواشنطن إن لا مكان لاستبدال العثمانيّة بمفهوم الأمويّة الجديدة، بصفتها إطار دولة الجهاد العالميّ، وإن الأمن الإسرائيلي أولاً وبمفهوم حكومة تل أبيب لا غير، وعندما انتظرت أنقرة ودمشق سماع صوت واشنطن، لم تسمعا إلا الدعوة للتهدئة والتفهّم المتبادل، ما يعني تثبيت الأمر الواقع الذي فرضته تل أبيب، كما تفعل واشنطن دائماً.