اخبار لبنان
موقع كل يوم -ام تي في
نشر بتاريخ: ٣ حزيران ٢٠٢٥
في سياق الأحداث المتسارعة، وتحديدا في الأيام القليلة الماضية، من شرق المتوسط إلى قلب روسيا، أكد الأسبوع الأخير الترابط الواضح بين مختلف الجبهات المشتعلة، وكشف عن لوحة استراتيجية تتشكّل على وقع النار والدبلوماسية معاً. فمن غزة المنكوبة تحت العدوان المستمر، إلى دمشق التي تحاول إعادة بناء الدولة على صفيح خطير من الوضع الداخلي الهش، فبيروت الباحثة عن توازن داخلي يعفيها قساوة الضغوط الخارجية ويبقي الاستقرار بالحد المعقول ويعالج ملف السلاح ويفتح الطريق نحو إصلاحاتٍ وتحسّنٍ اقتصادي أكثر من ضروري، وصولاً إلى الهجوم الأوكراني الكبير على قواعد جوية روسية وعزم موسكو الرد، ليعود السؤال الأساس إلى الواجهة: هل نحن أمام لحظة تصعيد كبرى، أم هي لحظات إعادة تركيب موازين القوى دوليًا وإقليميًا؟
الهجوم الأوكراني شكّل تطورًا نوعيًا في توقيته ومكانه، وهو جاء في حين تُبذل جهود حثيثة من أجل المفاوضات بين موسكو وكييف. بدا الهجوم بمثابة محاولة لقلب الطاولة أو لتعديل شروط التفاوض، ثم يأتي إعلان موسكو أن ردها لا بد منه بهدف تعديل موازين القوى بالنسبة إليها أقله قبيل إعادة فتح الباب أمام الوساطات لاحتواء الموقف.
اللافت أن هذا التزامن بين الهجوم الأوكراني على العمق الروسي والمحادثات المفترضة بين موسكو وكييف في تركيا، والواقع الدامي في غزة، ومسار التفاوض بين واشنطن وطهران، يعكس تشابكاً لا يمكن فصل ملفاته مهما اختلفت الجغرافيا، إذ تبدو هذه الجبهات مترابطة، بحيث لكلّ تصعيدٍ في ساحة أثرٌ مباشر على ساحة أخرى، لا سيما في لحظة تبدو فيها مراكز القرار الدولي منشغلة بإعادة رسم خرائط النفوذ.
في غزة، لا تزال المأساة مستمرة، مع انعدام أي أفق سياسي حقيقي للحل، فيما الحراك الدولي جداً خجول إن لم نقل أكثر. فالمفاوضات بين حركة حماس وإسرائيل كسراب الصحراء، بعدما وصفت واشنطن بـغير المقبول الردّ الأخير لحماس على المقترح الأميركي الذي وافقت عليه إسرائيل، وهذا ما يُعيد الأمور إلى الوراء، بحسب المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف. حماس طالبت بتعديلات جوهرية، منها ضمانات لوقف دائم لإطلاق النار، خصوصاً بسبب عمق انعدام الثقة في التزام إسرائيل بالاتفاقات السابقة، لا سيما وأن الغارات الإسرائيلية تستمر وتزيد من تعقيد الوضع الإنساني والسياسي في القطاع، وتضع كل الوساطات أمام اختبار الجدوى، في ضوء النوايا الحقيقية لإسرائيل وعدوانها المتواصل ليس في غزة فقط بل في الضفة أيضاً.
أما في سوريا، فإنّ المسار الذي أطلقه الرئيس أحمد الشرع يشكّل نافذة أساسية تتخذ متنفّساً لها من التفاهمات الاقليمية على الوضع السوري، مدعوماً بدور خليجي وواقعية أميركية جديدة. لكن التحديات لا تزال كبيرة أمام الشرع لجهة تكريس الوحدة الوطنية والسلم الأهلي، وضرورة حل مسألة قسد، وضبط الوضع في الساحل، وترتيب الوضع في السويداء، ومعالجة أزمة الفصائل العسكرية، وبعض الهجمات المتطرفة، بالتوازي مع إعادة بناء المؤسسات لتقوية حضور الدولة.
وفي موازاة ذلك فإنّ الحوار النووي الجاري مع طهران، رغم غياب تباشير فعلية حتى الساعة لاحتمال بلوغه حد الاتفاق، إلا أنه لا يزال يوحي بأن واشنطن ترى في فكفكة بعض عقد الإقليم بوابة لخفض التوتر العالمي وتحييد الساحات الهشة عن الصراع الروسي-الأطلسي. وتحت هذا السقف تشهد المفاوضات غير المباشرة بين الولايات المتحدة وإيران، ما يمكن وصفه بتقدم جزئي بانتظار الرد الإيراني على مقترحٍ أميركي أخير أرسلته واشنطن. لكن الحذر يبقى أيضاً سيد الموقف، على أمل أن تنعكس الضغوط المتزايدة في ساحات أخرى دفعاً نحو نتائج ملموسة، لا العكس.
وفي لبنان، تقف البلاد أمام تحديات ملف السلاح، إذ إن هذا البند يبقى محورًا رئيسيًا في المقاربات الدولية تجاه الحكومة اللبنانية، لا سيما المقاربة الأميركية، خصوصًا وأن المساعدات المالية المرتقبة مشروطة على ما يبدو بإحراز تقدّمٍ في هذا الملف، ما يضع الحكومة اللبنانية أمام تحدّي التوفيق بين الضغوط الخارجية والتوازنات الداخلية، ويضع البلاد أمام اختبار الاستقرار في ظل الواقع الجديد.
وسط كل هذه التفاعلات، تُطرح معادلة جديدة: هل يمكن للضغوط المتزامنة في أكثر من ميدان أن تسرّع الوصول إلى تفاهمات دولية كبرى؟ أم أن تراكُم الصواعق في أكثر من جبهة يُنذر بانفجار متعدد الاتجاهات يعيد خلط الأوراق من جديد؟
ما يبدو واضحًا هو تزايد وزن القوى الإقليمية ـ الخليج تحديداً وتركيا ـ في لعب أدوار التهدئة والانفتاح، في ظل غياب أوروبي في المبادرات التقليدية، ودور أميركي تقوده المصالح المباشرة فقط.
في الخلاصة، لا يمكن النظر إلى هذه الجبهات المتناثرة إلا بوصفها تعبيرًا عن شبكة واحدة من التفاعلات. من غزة إلى سهوب أوراسيا، يبدو العالم أمام مفترق يتيح إما تنظيم مرحلة استقرار جديدة تُبنى على التفاوض والواقعية، أو السقوط في فوضى متعددة الجبهات تقوّض ما تبقى من النظام الدولي القديم. والخيار، كما في كل مرة، ستحدّده الحنكة والضغط والإرادة السياسية... قبل أن تحسمه الميادين.