اخبار لبنان
موقع كل يوم -الميادين
نشر بتاريخ: ٢٩ أذار ٢٠٢٤
تراثيات رمضانية متجدّدة مع التمسك بالأصالة في طرابلس اللبنانية
ترافق رمضان مع ظاهرة أخرى تتعلّق بالسحور، وتنبيه الناس على الاستيقاظ بغية تناول آخر وجبة قبل بدء ساعة الصوم، وهي المًسَحِّر، شخص يجوب الليالي في الشوارع، يدعو النيام للاستيقاظ: 'يا نايم وحد الدايم'، و'قوموا على فطوركم، جايي النبي يزوركم'.
يترافق حلول شهر رمضان الكريم في مدينة طرابلس اللبنانية شمال البلاد بالعديد من المظاهر المختلفة عن أيام السنة العادية، ويبدأ الناس بالاستعداد للدخول في مرحلة الصوم يوماً قبل بدئه، فيما يسمى الوداع للأيام العادية، لأن للصوم رهبة، وقساوة مفترضة، ففي جوهره تعوّد على الخشونة، والجوع، وتحسّسٌ بآلام الفقراء، وخضوع النفس لقيم التطهر الروحي.
يبدأ الوداع بما يسمى 'السيران'، حيث يقصد المؤمنون الحقول والبساتين، يمضون نهاراً من الرفاهية، والاسترخاء استعداداً للدخول بقساوة الصوم، بانتظار إعلان رؤية هلال رمضان عند الغروب، وإذا صدف ان لم يثبت بدء الشهر، أعادوا الكرّة في اليوم التالي.
عند ثبوت رؤية الهلال، وإعلانه من المراجع الرسمية المختصة، اعتاد الناس أن يسمعوا قصف 21 طلقة مدفعية خلبيّة (خادعة)، فيعرف الجميع أن الإمساك سيبدأ بعد سحور ذلك المساء.
قبل السحور بساعة تقريباً، يقصف المدفع طلقة واحدة تنبيهاً للنيام بمعرفة دنوّ الإمساك، فيستيقظون لتناول حاجتهم، وبعد نحو ساعة، يقصف المدفع طلقة أخيرة إيذاناً ببدء ساعة الصوم.
تتكرر ضربات المدفع عند غروب ذلك اليوم بطلقتين إعلاناً بالفطور. وهكذا يستمرون كل أيام الشهر الفضيل، إلى أن يقترب اليوم التاسع والعشرين أو الثلاثين، فينتظر الجميع إعلان نهاية الشهر عند التماس هلال الشهر التالي، فيطلق مدفع رمضان 21 طلقة، تأكيداً على انتهاء الصوم، والعودة إلى الحياة العادية.
إطلاق الآذان على طريقتهم الخاصة
قبل اعتماد المدفع للتنبيه على حلول الصوم، اعتمد المسلمون في طرابلس اللبنانية قبل انتشار المكبرات الكهربائية، على طريقة خاصة بهم لإعلان بدء الصوم عند الغروب، وذلك بوقوف أحد المراقبين على سطح قلعة المدينة المرتفعة التي ينكشف البحر أمامها، فعندما تغيب الشمس في الأفق، يعطى المراقب إشارة لشخص آخر ينتظره في نقطة مرتفعة من مئذنة الجامع المنصوري الكبير، وعند تلقف الإشارة من القلعة، أطلق الأذان معلناً الفطور، قتتلقف بقية المآذن الإشارة، وتطلق الأذان دون الحاجة لمكبرات الصوت.
ترافق رمضان مع ظاهرة أخرى تتعلّق بالسحور، وتنبيه الناس على الاستيقاظ بغية تناول آخر وجبة قبل بدء ساعة الصوم، وهي المًسَحِّر، شخص يجوب الليالي في الشوارع، حاملاً طبلته، وقنديل إضاءة، يدعو النيام للاستيقاظ: 'يا نايم وحد الدايم'، و'قوموا على فطوركم، جايي النبي يزوركم'.
المسحراتي يبعث الأنس في النفوس
صوت المسحّر يخرق صمت الليل الرهيب، وقنديله اعتاد كسر الليل المعتم يوم لم تكن هناك إنارة كهرباء، ويوم انقطع التيار لأسباب شتى، فيبعث الأنس في النفوس، خصوصاً لدى المرضى والمتألمين، فيطلب الناس منه تلاوة بعض آيات قرآنية، أو اهازيج روحانية تدب الدفء الإيماني في نفوسهم، فتطمئن قلوبهم.
تطورت فكرة المسحر، أو المسحراتي، وباتت لها فرق متعددة عندما كبرت المدينة، ولم يعد مسحراتي واحد قادراً على تغطية كل أحيائها قبل حلو السحور، وتقاسمت فرق التسحير الأحياء بانتظام، والتزم كل مسحراتي الشارع أو الأحياء المخصصة له.
في الأيام العشرة الأخيرة من الشهر، تبدأ فرق المسحراتية التجوال على البيوت، وتتكوّن من عدة أشخاص، يقودهم شيخ ينظّم تجوالهم، فتقرع طبولها، وتتلو أهازيجها التقليدية على ابواب البيوت، فيفرح بها الاهالي، خصوصاً الصغار، ويخرجون من منازلهم لاستضافة الفرق، وتقديم الحلوى لهم، وتطورت العطاءات حتى باتت مدخولاً مالياً يستحق الاهتمام، وعذاب التجواب طوال الشهر.
من أكثر ما ينتظره المؤمنون في شهر رمضان هي صلاة التراويح، وهي ليست فرضاً، لكن المؤمنين يحبونها، ويقصدون المساجد عقب الانتهاء من الإفطار للمشاركة في التراويح، وبات التقليد احتفالية إيمانية تكتظ بها المساجد، وباحاتها، وبعدها ينطلق المؤمنون لممارسة سهراتهم، وحياتهم الليلية بصيغ اجتماعية متنوعة.
يجتمع الأصدقاء والأقرباء في بيوتهم، ويتنقلون من منزل لآخر بالتناوب، ويمضون سهرات جميلة ملؤها الدفء العاطفي المفعم بحياة إيمانية تضفيها قيم الشهر الفضيل.
وفي الشوارع، خصوصاً عندما يحل رمضان في شهور الربيع والصيف، كثيراً ما يتجمّع الخلّان في الشوارع، والساحات، يشربون القهوة، والشاي، والزهورات المختلفة، واعتمدت بعض المقاهي للسهرات الرمضانية مثل مقاهي موسى في باب الرمل، ومقهى فهيم في ساحة التل، ومقهى التل العالي.
تبادل 'السكبة' بين البيوت
خصّص الناس لرمضان طقساً عند تناول الفطور، حيث يبدأ الإفطار بتناول 3 حبات تمر، ثم صحناً من سائل ساخن لتحضير المعدة بعد انقطاعها عن تلقف الطعام طوال النهار، ثم يأتي دور وجبة الإفطار العادية مما جرى تحضيره من طعام.
للفائف ورق العنب وقع رمضاني لدى العامة، وتكاد الوجبة لا تغيب عن المائدة، كما يتجمّع عليها الأصحاب والجيران، فتشكل الوجبة عامل جمع احتفالي من المعالم التي أدخلها المؤمنون على العادات الرمضانية.
ولا تزال 'السكبة' دارجة في العديد من المناطق والأحياء، وهي تبادل صحون الأطعمة بين البيوت، ومن بعض البيوت إلى بعضها الآخر عند وجود حاجة لدى عائلات متواضعة الحال كعمل خير رمضاني.
ويعتمد الناس على مشروبات معينة مخصصة لرمضان منها 'السوس'، والخرنوب الطيب المذاق، مع سعرات حرارية حلوة عالية تعويضاً على نقص النهار.
من المشروبات أيضاً، عصائر الفاكهة المختلفة مثل التوت، والتمر الهندي، والليمون، والليموناضة التي اشتهرت طرابلس بحامضها، والجلاب، وعصير الجزر، والتفاح، ويشاهد مئات الباعة يعرضون قنانينها بألوان مختلفة، وأكياسها النايلون في الشوارع العامة.
الحلويات الرمضانية مشهورة في طرابلس، أبرزها الكربوج، والكلاج، وورد الشام، وهي حلويات اعتمدها بعض القدماء، وبينما انطلقت من أحياء المدينة القديمة، حيث أمكن رصد أقدمها في طريق ضيّق يعرف بالرمانة متفرع من سوق النحاسين، حيث يقوم محل تصنيعها لدى أبو كنعان شرف الدين، الذي يناهز المائة من العمر، وقد أورث الحرفة لأبنائه، يتقنونها بفن وتركيبة طيبة وبأسعار مقبولة، ومن هناك انطلقت إلى بقية الحلونجية في أنحاء مختلفة من المدينة.
أما الكربوج، فهو الماركة المخصصة لرمضان، وهو معمول ممدود من الجوز أو الفستق الحلبي، مغطىً بمادة تسمى 'الناطف' أساسها شلش الحلاوة، وتحتاج صناعتها لخبرة ومعرفة، والناطف معجونة مثل 'الكريمة' بيضاء، رقيقة، شديدة الحلاوة، تزود الانسان بطاقة وحيوية يفتقدها بسبب الانقطاع عن الطعام، ولذلك لا تُصَنّع إلا في رمضان.
يضاف إلى هذه الأصناف، الحلويات الطرابلسية التقليدية كالبقلاوة، وحلاوة الجبن، والهيطلية، وقد اشتهرت بها عدة عائلات طرابلسية بالأخص 'الحلاب'.