اخبار لبنان
موقع كل يوم -اندبندنت عربية
نشر بتاريخ: ١٤ تشرين الأول ٢٠٢٥
14 فيلما أُنجزت بين 2019 و2025 شاركت سابقا في مهرجانات دولية
إغلاق سينما 'متروبوليس' لم يكن نهاية الحكاية، بل محطة موقتة في مسار 'نضال' طويل خاضه القيمون عليها، حتى عادت إلى جمهورها الوفي العام الماضي، في مقر جديد، لتُعيد طرح نفسها كمنصة للسينما التي تعاني للوصول إلى الجمهور، بعيداً من الصالات التجارية وهاجس تحقيق الأرباح.
اليوم، بعد أقل من عام على استعادة 'متروبوليس' لأنفاسها، تعيد تأكيد التزامها بالسينما اللبنانية، عبر مبادرة نوعية تعرض خلالها 14 فيلماً لبنانياً أُنجزت بين 2019 و2025، شاركت سابقاً في مهرجانات دولية، لكنها لم تجد مكانها على شاشة 'متروبوليس' بسبب توقف نشاطها آنذاك. هذه العروض التي انطلقت الأسبوع الماضي وتستمر حتى اليوم، حظيت بإقبال واضح من جمهور متعطّش لرؤية بلاده وناسها على الشاشة الكبيرة، وسط جمهور محلي يتفاعل مع التفاصيل بوجدان يعرف تماماً سياق الحكايات.
من بيروت الملوثة في 'كوستا برافا' لمونيا عقل، إلى الهجرة العكسية في 'البحر أمامكم' لإيلي داغر، مروراً بجحيم العدوان الإسرائيلي في 'جدار الصوت' لأحمد غصين، وصولاً إلى نقد العنصرية في 'حديد نحاس بطاريات' لوسام شرف، ثمة خيط درامي ونفسي مشترك بين هذه الأعمال: لبنان كحيز خانق، كبلد يغلق على مواطنيه الأفق والأمل. وعلى رغم تنوّع المقاربات، تبتعد هذه الأفلام عن الخطاب المباشر والأسلوب التقريري، فتذهب نحو مستويات استعارية ترصد المآزق الاجتماعية والسياسية بعين سينمائية.
غير أن هذه المقاربات الفنية لا تلغي ملاحظات نقدية تحتاج إليها بعض الأعمال، لا سيما أنها تمثل الخطى الأولى لعدد من المخرجين خلف الكاميرا، في محاولة لصوغ رؤيتهم للعالم، وللبنان على وجه الخصوص.
في 'كوستا برافا'، نتابع أزمة النفايات في لبنان، موضوع عالجته مونيا عقل سابقاً في فيلمها القصير 'صبمارين'. غير أن التوسيع نحو فيلم طويل لم يثمر عمقاً درامياً بقدر ما أنتج خللاً في البناء وإرباكاً في السرد. الحكاية تدور حول عائلة لبنانية تهرب من بيروت إلى الجبال بحثاً عن بيئة نظيفة، لكن الدولة تقرر إنشاء مكب نفايات قرب منزلهم. يحاول الفيلم أن يعكس العلاقة المتوترة بين المواطن والسلطة، لكن من دون أن يقدم قراءة متماسكة أو تساؤلات جادة. السيناريو يعاني من تفكك واضح، والمَشاهد تتراكم بلا ترابط عضوي. الأداء التمثيلي (صالح بكري ونادين لبكي) بدوره يعاني من غياب التوجيه، حيث تطغى الانفعالات المكررة على الحوار والموقف. الشخصيات، بدلاً من مواجهة السلطة، تنكفئ على خلافات داخلية لا تقود إلى أي تصعيد درامي حقيقي. وعلى رغم أن الفيلم يطرح مقاربة رمزية للبنان كبلد مأزوم سياسياً وبيئياً، فمعالجته تبقى سطحية، مكتفية بإشارات إذاعية أو حوارات هامشية عن النفايات. النتيجة: عمل يقارب الواقع بأدوات لا تتجاوز الشكوى والتعبير عن المرارة.
العيش القلق
في 'البحر أمامكم'، يقدّم إيلي داغر عملاً سينمائياً يغوص في طبقات العيش البيروتي القلق، مدينة على حافة الانفجار، من خلال شخصية جنى (منال عيسى) العائدة من الغربة. يصوغ داغر فيلماً عن وطن باتت العودة إليه تشبه السقوط الحر في هوة. الفيلم لا يتضمن أحداثاً بقدر ما يلتقط المزاج العام والحياة المشلولة. جنى، التي تعيش موقتاً في بيت أهلها، تبدو ضائعة بين محاولات التأقلم وخيبة التجربة. يعتمد الفيلم على الإحساس بالبطء والاختناق. الضغط النفسي حاضر باستمرار. هذه الخيارات الفنية تحوّل الفيلم إلى مرآة لبلد يعيش في عزلة. وكأن الشخصيات، مثل البلد، فقدت القدرة على التعبير أو اتخاذ قرار واضح. الكاميرا ترصد الواقع كأنه حلم ثقيل لا يقظة منه. هذا فيلم عن الاستنزاف البطيء، عن شباب يتركون وآخرين يعودون بلا أمل، وعن مدينة تختنق بصمت في انتظار الأسوأ.
'جدار الصوت' لأحمد غصين يختزل حرب يوليو (تموز) 2006 إلى تجربة الخوف، من خلال أفراد محاصرين وأصوات قنابل. المكان: بيت جنوبي. الزمن: لحظة تحت القصف. مجموعة من المدنيين يختبئون في الطابق السفلي، بينما يحتل الجنود الإسرائيليون الطابق العلوي. لا حوارات سياسية ولا تفسيرات لخلفية الأحداث. الصراع هنا بين طرفين بقدر ما هو بين الإنسان وغريزة البقاء. الجنود الإسرائيليون موجودون، لكنهم خارج الكادر. الاحتلال يحدث، لكن نرى آثاره فقط. الحضور الطاغي للأصوات، مع تغييب الأعداء بصرياً، يعيد صياغة الإحساس بالحرب من الداخل.
لا يحاول غصين إعادة بناء الأحداث، ولا تقديم سردية مضادة، ولا اقتراح نفسه كوثيقة. بدلاً من ذلك، يختار التأمل: ما الذي يحدث فعلاً حين لا يحدث شيء إلا الانتظار؟ 'جدار الصوت' لحظة سينمائية خالصة، تنقل ما تعجز التقارير والخطب عن نقله: الشعور بالعجز والوجود المعلّق في انتظار المجهول.
أخيراً، يفتح وسام شرف في 'حديد نحاس بطاريات' نافذة على واقع المهمّشين في لبنان، من دون أن يقع في فخ الخطابة. يقدّم حكاية بسيطة في الشكل، مركّبة في دلالاتها، عن سوري (زياد جلاد) يجمع الخردة وإثيوبية (كلارا كوتوريه) تعمل خادمة، يعيشان قصة حب في مدينة ترفضهما معاً. المدينة التي يصوّرها شرف ليست بيروت المألوفة. الجميع سجناء فيها: اللاجئون، العاملات الأجنبيات، حتى أصحاب الأرض أنفسهم. الجميع رهائن ماض ثقيل، ومأزق حاضر في التفاصيل. يعتمد الفيلم على مقاربة ميلودرامية ممزوجة بسخرية خفيفة وفانتازيا لم نعتدها في السينما اللبنانية. يلجأ شرف إلى أجواء تذكّر بأفلام الفنلندي آكي كوريسماكي، من حيث الإضاءة المسطّحة، الكادرات الثابتة والتفاعل العاطفي المكتوم. هذا فيلم لا يتوسّل التعاطف، إنما يفتح الباب أمام نقاش صعب، قد يبدو ظالماً أحياناً للبنانيين، لكنه ضروري.