اخبار لبنان
موقع كل يوم -نداء الوطن
نشر بتاريخ: ١٤ شباط ٢٠٢٥
منذ إعلان دولة لبنان الكبير، مال الموقف السني العام إلى رفض الاندماج في ما اعتبروه «خطيئة تاريخية»، وكانت أفئدتهم ترنو إلى الوحدة العربية الموسّعة لتعويض زوال مؤسسة «الخلافة» الجامعة.
استمرّ هذا الموقف الجامد حتّى عام 1936، حينما عقد «مؤتمر الساحل والأقضية الأربعة»، حيث خرق كاظم الصلح، الصحافي والسياسي وابن عمّ الرئيس رياض الصلح والمنظّر الفكري له، الإجماع السنّي الذي فرض «حُرُماً» على الاندماج في هياكل الدولة الجديدة على مختلف المستويات، بطرحه مسألة «الاتصال والانفصال» في لبنان، والتي رامَ من خلالها التوفيق بين لبنان الوطن الكيان المستقلّ، وبين مفهوم العروبة كهوية وليس كوحدة ترابية.
شكّلت النظرية التي طرحها الصلح الأساس الفكري لـ «ميثاق عام 1943». وكان من ضمن ما قاله في مطالعته، التي أعاد نشرها كمقال في ما بعد، «نحن لا نريد أن نبني وطناً نصف سكّانه أعداء له».
ومع أن هذه الجملة كان يصف بها حال المسيحيين في ظلّ دولة «سوريا الكبرى»، إلّا أنها أكثر ما تنطبق على سنّة الأطراف في لبنان، وذلك نابع في الدرجة الأولى من السمة المركزية «الراديكالية» للنظام، والذي تعامل مع الأطراف بمنطق اختزالي، تمأسس حول قنوات ضيّقة من النخب البرجوازية على حساب المواطنة المباشرة.
والحال أن غياب آليات الاندماج الوطني حفر أثره بعمق في العقل الجمعي السنّي، وتُرجم بخصومة معنوية مع الدولة، فكان ميزان الهوية «طابشاً» عروبياً وإسلامياً على حساب البعد اللبناني، وأكثر منها في السلوكيات والمعاملات اليومية، في تعبير عن الهوية التائهة بين جمود الجغرافيا وسيولة التاريخ، استحال شعوراً وجدانياً ملأ الفراغ الوطني، وعقّد تراكمه إشكاليات الاندماج الفعلي.
يقول الله تعالى في محكم التنزيل في سورة فاطر «ولا ينبئك مثل خبير». كان رفيق الحريري يعي بعمق مدى تأثير مسألة الانفصال والاتصال، وأن الاندماج لا يمكن أن يكون وقياً، أي قاصراً على فئة محدودة، انطلاقاً من كونه واحداً من سنّة الأطراف، ينتمي لطبقاتهم الكادحة، وتشكّل وعيه الاجتماعي والسياسي ضمن المعاناة نفسها، وما انتماؤه للقوميين العرب إلّا خير تعبير عن ذلك.
يقول الحريري في حوار مطوّل أجراه معه الأستاذ غسان شربل، نشر ضمن كتاب «لعنة القصر»، إنه يعرف المناطق اللبنانية جيداً، حتى في الشمال البعيد، ويدرك مشاكلها، بسبب تنقله في صباه للعمل فيها.
لذلك ما إن تسلّم رئاسة الحكومة حتى بدأ تطبيق سياسات تُسهم في دمج سنَّة الأطراف، عبر ركيزتين أساسيّتين دائماً ما كانتا في صلب تفكيره، وهما التعليم والوظائف في القطاع العام، حيث أطلق ورشة ضخمة لبناء وتأهيل المدارس والمعاهد والثانويات، وتحسين جودة التعليم وتطوير مناهجه. الأمر الذي أتاح فرص التعليم الجيد أمام فئات وطبقات كانت محرومة منه.
وفي موازاة التنقيب عن الكفاءات اللبنانية واجتذابها من شتى أصقاع المعمورة، أفسح الحريري المجال أمام أبناء الطبقات الوسطى والشعبية للدخول إلى إدارات الدولة، خصوصاً عبر مجلس الخدمة المدنية، حيث كان يقيم على نفقته دورات تقوية، بإشراف أساتذة مميزين، تحضيراً للامتحانات الوظيفية، ما دفع شباب الطبقة الوسطى وشاباتها للإقبال على الدولة.
وبالتالي، فإن رفيق الحريري أنجز مصالحة معنوية تاريخية بين سنّة الأطراف والدولة، بعدما بدأ الشعور بالهوية الوطنية يتعزّز لديهم، ولا سيّما غداة تلمّس أبناء الطبقة الوسطى أن الوظائف لم تعد حكراً على العائلات المخملية و «بطانة الزعيم».
فكانت «لبنان أولاً» لحظة تاريخية جسّدت ما راكمه رفيق الحريري على صعيد عملية الاندماج، بحيث صار للعلم اللبناني اعتبار جدي في الوجدان الجماهيري.
بيد أن «لبنان أولاً» كمفهوم يُراد من خلاله تجسيد التوازن بين الوطن والإسلام والعروبة، دون غلبة عنصر على آخر، طاوله الاغتيال أيضاً. إذ لم يَسَعْ الرئيس سعد الحريري إكمال طريق والده لعوامل كثيرة لا مجال لذكرها.
وهذا ما أفضى إلى تعطّل آليات الاندماج الطرية العود، لحساب نموّ نزعات موغلة في المناطقية، عُبّر عنها بعناوين انتخابية حضر فيها مصطلح القرار نيابياً وبلدياً.
وعاد منطق العائلات النبيلة والمناطق المميزة، وساد التنافس السلبي على الحصص لا على الفعالية، تماماً كما هو الحال في حكومة الرئيس نواف سلام وسعيها من جديد لفرض ثورة من فوق، غالباً نتيجتها لن تكون أحسن من سابقاتها.











































































