اخبار لبنان
موقع كل يوم -ام تي في
نشر بتاريخ: ٢ تموز ٢٠٢٥
في زيارة هي الأولى من نوعها منذ سنوات القطيعة، يتوجه مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان إلى دمشق السبت المقبل على رأس وفد علمائي، حيت يلتقى الرئيس السوري أحمد الشرع. الخطوة، وإن وصفت رسميًا بأنها زيارة دينية بروتوكولية، إلا أنها تحمل أبعادًا رمزية وسياسية تتجاوز السياق الديني، وتعيد إلى الواجهة تاريخًا طويلًا من التوتر والانفصال بين دار الفتوى في لبنان والنظام السوري.
قطيعة تعود إلى عقود
تاريخ العلاقة بين دار الفتوى والنظام السوري لم يكن يومًا سلسًا. فمنذ عقود، مثّلت دمشق مركزًا مناوئًا للمؤسسة الدينية السنية في لبنان، خصوصًا في عهد الرئيسين حافظ الأسد وبشار الأسد، حيث وُصِفت العلاقة بأنها محكومة بالتوتر وعدم الثقة، وساهم نظام الأسدين بتهميش الدور السني الوطني ومرجعية دار الفتوى.
الاحتكاك بلغ ذروته في الثمانينات مع تصاعد صوت دار الفتوى في وجه النفوذ السوري. ففي عام 1986، اغتيل الشيخ صبحي الصالح، أحد أبرز وجوه الاعتدال، وبعده المفتي الشيخ حسن خالد عام 1989، في ما اعتُبر رسالة مباشرة من النظام السوري ضد استقلالية القرار السني اللبناني. وقد نقل الدكتور محمد السماك، مستشار الرئيس الراحل رفيق الحريري، عن نائب الرئيس السوري السابق عبد الحليم خدام قوله بحق المفتي الراحل حسن خالد قبل اغتياله: ربطة الشاش لا تصنع مفتيًا، وخالد هو مفتي جونيه، لا مفتي المسلمين.
دار الفتوى في مرحلة الانكفاء
تحت وطأة الاغتيالات والوصاية السورية، اتخذت دار الفتوى موقفًا حذرًا خلال التسعينات، خصوصًا في عهد المفتي محمد رشيد قباني، الذي التزم خطًا محافظًا لتفادي التصادم مع النفوذ السوري. وفي المقابل، تولى رئيس مجلس الوزراء الأسبق رفيق الحريري مهمة ترتيب البيت السني من دون الدخول في مواجهة مباشرة مع دمشق.
لكن اغتيال الحريري عام 2005 شكّل نقطة تحول، إذ انقطعت العلاقات نهائيًا، واعتبر السنّة في لبنان أن استهدافه هو محاولة لكسر مشروعهم الوطني المعتدل القائم على شعار لبنان أولًا. لاحقًا، ورغم محاولات ترميم العلاقة في إطار تسوية السين – سين (السعودية – سوريا)، إلا أن انهيار الاتفاق أعاد الأمور إلى المربع الأول.
الثورة السورية وتعميق الجرح
مع انطلاق الثورة السورية عام 2011، انحاز جزء واسع من الطائفة السنية في لبنان إلى مطالب الشعب السوري. ولكن ما تبع ذلك من قمع دموي من قبل النظام، وتدخل حزب الله عسكريًا إلى جانب الأسد، عمّق من شعور المظلومية السنية في لبنان وسوريا على حد سواء.
في المقابل، حاول المفتي قباني كبح الأصوات المؤيدة للثورة داخل المساجد، واتخذ إجراءات تأديبية بحق عدد من الأئمة، كما استقبل السفير السوري في بيروت علي عبد الكريم علي وسط غضب شعبي واسع.
المفتي دريان ومحاولة تثبيت المرجعية
تسلّم المفتي دريان موقعه في ظل انقسام داخلي حاد، وحالة من التباعد بين المرجعية الدينية وقواعدها الشعبية. غير أنه نجح تدريجياً في استعادة موقع دار الفتوى كمؤسسة جامعة، واضطلع بدور توافقي حافظ من خلاله على توازن دقيق بين الابتعاد عن الاصطفاف السياسي والتمسك بالثوابت الوطنية للطائفة السنية.
الزيارة الحالية إلى دمشق تأتي في لحظة دقيقة: فراغ سياسي سنّي بعد تعليق الرئيس سعد الحريري عمله السياسي، وضعف التأثير الشعبي لعدد من القيادات السنية التقليدية، مقابل تصاعد الدعوات إلى ملء هذا الفراغ المرجعي والديني.
ما وراء الزيارة
رغم التأكيدات على أن الزيارة تأتي في إطار التواصل الديني مع المؤسسات الإسلامية في سوريا، فإن التوقيت والرمزية، خصوصاً بلقاء الرئيس السوري أحمد الشرع، يضعان الحدث في إطار أوسع.
فالزيارة واللقاء المرتقب مع الرئيس السوري أحمد الشرع يأتيان بعد فترة فراغ سياسي في لبنان، حيث تراجع الحضور السني على مستوى القيادة، في ظل غياب شخصية وازنة بعد انسحاب الرئيس سعد الحريري من الحياة السياسية. وبينما لم تحظ زيارات رؤساء الحكومات الأخيرة - الرئيسين سلام وقبله ميقاتي - بتأثير واسع في الشارع السني، فإن زيارة المفتي دريان تحمل رمزية خاصة، نظرًا إلى مكانته الروحية والشعبية.
في الخلاصة... زيارة المفتي دريان إلى سوريا ليست تفصيلاً عابرًا في سياق العلاقات اللبنانية – السورية، بل هي رسالة متعددة الاتجاهات: إلى الداخل السني الذي يشعر بالتهميش وغياب القيادة، وإلى النظام السوري الذي يحاول طيّ صفحة الماضي، وإلى الإقليم الذي يراقب التحولات في مزاج الطائفة السنية في لبنان في ظل النظام السوري الجديد.