اخبار لبنان
موقع كل يوم -بي بي سي عربي
نشر بتاريخ: ٢٧ أيلول ٢٠٢٥
في ذلك المساء الخريفي هزت انفجارات متلاحقة قلب الضاحية الجنوبية لبيروت، ودوى صداها في كل أحياء العاصمة.
كانت غارات إسرائيلية عنيفة، وكانت حدتها تشي بأن الهدف ليس عادياً. تبين لاحقاً أن الهدف كان اغتيال الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله، 'عدو إسرائيل اللدود'، و'الرمز الوطني' بالنسبة لشريحة كبيرة من اللبنانيين.
خلال الدقائق التي تلت الغارة، وقبل الإعلان عن اغتيال نصرالله، تحوّلت الشوارع إلى ممرات نزوح، وبدأ سكان الضاحية بمغادرة بيوتهم بحثاً عن ملجأ.
كانت الحكاية أبعد من الخبر العاجل: حقيبة صغيرة طويت على عجل، أم هاربة وسيجارتها لا تزال في فمها، شاب أردني وجد نفسه فجأة في وسط حرب لم يختبرها من قبل، وصحافي يوثّق الحدث ويعيشه في الوقت نفسه.
هذه القصة محاولة لاستعادة تلك الساعات: كيف بدأ يوم 27 أيلول/ سبتمبر 2024 عادياً، وكيف انقلب كل شيء مساءً. هي حكاية قصيرة عن مدينة وناسها، عن الفقدان والرحيل القسري، وعن مقولة لبنانية شعبية صارت تختصر تجربة شعب مع الحروب: 'تنذكر وما تنعاد'.
الأكثر قراءة نهاية
وكان حزب الله قد أعلن، منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، فتح 'جبهة إسناد' من جنوب لمساندة غزة. وردت إسرائيل بغارات على قرى الشريط الحدودي استهدفت مخازن أسلحة وخطوط إمداد، ليتوسع نطاق المواجهة تدريجياً.
وفي 17 و18 سبتمبر/أيلول 2024، وقعت انفجارات متزامنة استهدفت أجهزة نداء (بيجر) وأجهزة اتصال لاسلكي (ووكي توكي) في أنحاء متفرقة من لبنان، أسفرت عن مقتل 42 شخصاً وإصابة آلاف آخرين.
ابتداءً من 23 سبتمبر/أيلول، شنت إسرائيل نحو 1500 غارة على مواقع لحزب الله في جنوب لبنان ووادي البقاع وضواحي بيروت، ضمن عملية عسكرية أُطلق عليها اسم 'السهام الشمالية'. وقد تسببت هذه الضربات في نزوح عشرات الآلاف من المدنيين من القرى الجنوبية نحو بيروت والشمال. ومع نهاية الشهر، قدرت السلطات أن إجمالي عدد النازحين داخلياً تجاوز نصف مليون شخص.
وبحلول 27 سبتمبر/أيلول، بلغت المواجهة ذروتها مع اغتيال نصرالله في غارة إسرائيلية.
قبل العاصفة
تابعوا التغطية الشاملة من بي بي سي نيوز عربي
اضغط هنا
يستحق الانتباه نهاية
في صباح السابع والعشرين من أيلول/سبتمبر 2024، كانت بيروت تبدو وكأنها تعيش روتينها اليومي. لكن خلف هذا الهدوء كان البلد يغلي على وقع حرب مفتوحة على جبهات الجنوب.
القصف لم يتوقف، والاغتيالات في الضاحية الجنوبية تكاثرت، مستهدفةً شخصيات بارزة، ما جعل الناس يعيشون في حالة قلق دائم.
الضاحية، ذات الكثافة السكانية الشيعية، تعد 'البيئة الحاضنة' لحزب الله بحسب التعبير المحلي، ويعيش فيها مئات آلاف السكان، وهي بنظر كثيرين 'الخط الأمامي' لأي مواجهة مع إسرائيل.
كنتُ في تلك الفترة، أعمل كمراسل ميداني مع قناة محلية، أتنقل بين المكاتب والميدان، أتابع حركة الأخبار المتسارعة. ورغم ذلك، حاولتُ أن أعيش لحظة صباحية هادئة: فنجان قهوة، نظرة سريعة إلى شاشة التلفزيون، وقلق داخلي لم أجرؤ على الاعتراف به علناً.
في حي الأمريكان، على أطراف الضاحية، كانت ليلى تعيش تناقضاً مشابهاً. تقول: 'كنت أحاول أن أمضي صباحاً طبيعياً مع أمي وأختي'.
انهمكت يومها بمراجعة تفاصيل عرسها المؤجل. تقول: 'كنا نسمع الأخبار القادمة من الجنوب. بعض الأصدقاء كانوا يحذّرون: استأجروا بيتاً بعيداً، قد تشتد الحرب. لكننا لم نتحرك، التمسّك بالبيت كان أقوى'.
معاذ، شاب أردني قادم من الدوحة، وصل إلى بيروت بطائرة شبه فارغة. يصف اللحظة قائلاً: 'شعرت أنني أدخل مدينة تستعد لعاصفة. الضابط في المطار سألني بدهشة: لماذا جئت الآن؟ لم أعرف بماذا أجيبه'. بالنسبة للشاب الذي لم يعش حروباً من قبل، كان المشهد مربكاً: شوارع مزدحمة، وأسئلة معلقة عن المستقبل.
وفي وسط بيروت، كان سليم، الموظف في صيدلية، يراقب حركة غير اعتيادية. يقول: 'ازدحمت الصيدليات والعيادات بنازحين من الجنوب، يبحثون عن دواء أو مكان آمن'.
يضيف: 'كان يوماً غير طبيعي قبل أن يتبدل كل شيء. حتى زبائننا المعتادون كانوا يشترون أكثر من حاجتهم، كأنهم يخزنون لمجهول قريب'.
بدا الصباح عادياً، ولكن بين محاولات الإنكار وطقوس الحياة اليومية، كان الخوف يتسلل بصمت قبل أن يعلو هدير المساء.
صوت يغير كل شيء
قرابة السادسة، دوت سلسلة انفجارات ضخمة هزت قلب الضاحية الجنوبية، وتحديداً منطقة حارة حريك.
كانت الغارات الإسرائيلية مختلفة في شدتها ودقتها عما سبق، إذ استخدمت فيها قنابل ضخمة استهدفت مجمعات محصنة. أعلنت إسرائيل لاحقاً أنها نجحت في اغتيال حسن نصرالله. لم يكن الخبر مجرد تطور عسكري؛ بل زلزالاً سياسياً، إذ ارتبط اسم نصرالله بعقود من المواجهة مع إسرائيل إلى جانب دوره كطرف محوري في الحرب السورية، وكنواة لما يُسمى بـ'المحور الإيراني' أو 'محور الممانعة'.
من موقعي كمراسل وشخص مقيم في الضاحية منذ طفولتي، بدت المشاهد كأنها يوم القيامة: لهب يضيء السماء، موجات ارتدادية تهز المباني، طرقات تتشقق وصراخ يتردد في الأحياء. لم يكن سهلاً أن تنقل الخبر وأنت تعيشه.
في الطيونة، على أطراف الضاحية، كان كريم يسمع الأصوات الأولى للتفجير. يقول: 'ظنناه جدار صوت، ثم صار أوضح. المباني اهتزت، والناس صرخوا معاً كأنهم أدركوا أن ما يحدث غير مسبوق'. بجانبه، تجمدت خطيبته ندى في مكانها وهي ترى الدخان البرتقالي يتصاعد من بعيد: 'كان لوناً غريباً لم نره من قبل. شعرتُ أن الهواء نفسه تغيّر'.
في حي الأمريكان، داخل الضاحية، جلست ليلى مع عائلتها. تروي: 'انطفأت الحياة فجأة مع تردّد موجات التفجير، كأن شيئاً يسحب الروح من المدينة. أمي لم تنزع السيجارة من فمها وهي تركض نحو الباب. كنا في حالة صدمة، لم نعرف إلى أين نتجه'.
أما معاذ، القادم من بلد لم يعرف الحرب، فجلس مشلول الحركة. يقول: 'الصوت كان أعلى من أي شيء سمعته في حياتي. لم أستوعب إن كان قريباً أم بعيداً. بقيت في مكاني حتى شدّتني ليلى نحو الدرج'. بالنسبة له، كانت هذه اللحظة تحولاً شخصياً: 'شعرت أنني دخلت كابوساً واقعياً. أدركت أنني في قلب حرب حقيقية'.
كان الانفجار واحداً، لكن نتائجه تناثرت في كل اتجاه. البعض ركض مذعوراً، البعض اندفع للتصوير والتوثيق، فيما جمد الخوف أجساد كثيرين. اللحظة نفسها أنتجت ردود فعل مختلفة، لكنها رسخت في الذاكرة الجماعية كحدث لا يُمحى.
التحذيرات العلنية والقرار الصعب
مع حلول الليل، ظهر عنصر جديد في مشهد الحرب، لم يألفه اللبنانيون على مرّ الحروب السابقة: تحذيرات علنية من الجيش الإسرائيلي تُبث عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تضمُّ خرائط دقيقة لمربعات جغرافية وتطلب من سكانها 'الإخلاء فوراً'.
كان هذا الأسلوب صادماً لسكان بيروت الذين لم يختبروا هذا النوع من الحرب الرقمية المباشرة. فجأة، صار الهاتف وسيلةً لتقرير مصير عائلات بأكملها.
في منزلي بمنطقة الكفاءات على تخوم الضاحية، جلست أوضّب أغراضي في حقيبة صغيرة. لم أجمع ما أحتاجه بقدر ما التقطت ما لا أريد أن أفقده: جائزة وشهادة تكريم، بعض الأغراض التي جمعتها خلال رحلات سفري، عطري المفضل، أوراق شخصية. ألقيت نظرةً أخيرة على البيت الذي شهد طفولتي، وشعرت أنني أودعه بلا وعدٍ بالعودة.
في حي النويري في قلب العاصمة بيروت، قرأ سليم كلمة 'فوراً' على شاشة هاتفه وقال: 'لم تترك مجالاً للجدل. كنا عائلة من خمسة، ومع أطفال صغار، لم نستطع التفكير مرتين. جهّزنا ما استطعنا وحملنا أنفسنا نحو الشمال'. يضيف: 'الخوف كان مركّباً. ليس فقط من القصف، بل من أن نتأخر دقيقة واحدة عن الهروب، فنحن لم نكن نعرف ماذا يعني التهديد، أو ما يمكن أن يلحقه من ضرر'.
أما ليلى، فكانت حائرة بين البقاء إلى جانب أمها التي رفضت المغادرة وبين غريزة النجاة. تقول: 'حملت حقيبة صغيرة فيها أوراق ووثائق ثبوتية. تركت الثياب والذهب. في تلك اللحظة، كان السؤال: ماذا سينفعني الذهب إذا مت؟'. وتصف أمها بقولها: 'كانت تُردّد: إذا كنت سأموت، فسأموت في بيتي. لكن حين بدأ القصف يقترب، كانت أول من ركض نحو الباب'.
كريم من جهته، اندفع نحو موقع القصف ليصوّر ويرسل اللقطات إلى غرف الأخبار. يقول: 'غريزة الصحافي غلبت غريزة البقاء. كنت أعلم أنني أخاطر، لكن شعرت أن العالم يجب أن يرى ما يحدث'. أما خطيبته ندى، فانشغلت بطمأنة أهلها عبر الهاتف بينما تجهّز حقيبة عشوائية: 'كنتُ أضع أشياء بلا تفكير: كتاب، سترة، بعض الأدوية. لم أعد أميز بين المهم وغير المهم'.
في بعبدا، جلس معاذ مذهولاً أمام المشهد. كان يقول: 'مستحيل أن يكون قد قُتل (نصرالله)'. يروي: 'رأيت دموع الناس حولي. حتى من لم يكونوا مؤيدين له، انهاروا أمام فكرة أن زمناً انتهى'. كانت تلك اللحظة إعلاناً غير رسمي أن بيروت على وشك الدخول في فصل جديد.
منتصف الليل: النزوح الجماعي
مع تصاعد القصف وتزايد التكهنات حول خبر الاغتيال وإطلاق أفيخاي أدرعي - المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي - تحذيرات لأحياء كل من الحدث والليلكي والجاموس، شهدت الضاحية الجنوبية وأطرافها مشهد نزوح واسع. آلاف العائلات خرجت دفعة واحدة، في سيارات مكتظة أو سيراً على الأقدام.
بالنسبة للمتابع العربي على الشاشات، كان المشهد يذكّر بلقطات سقوط بغداد عام 2003 أو جولات الحرب في غزة: سيارات محملة بما تيسر، أطفال نائمون في المقاعد الخلفية، وأمهات يحملن وثائق الهوية وكيساً صغيراً من المصاغ، فيما يلتفت الآباء بحذر إلى السماء.
خرجتُ أنا مع حقائبي الصغيرة لأجد صديقي نور بانتظاري على أطراف المنطقة. يتذكّر نور: 'رأيتك مثقلاً. كنت تحمل حقائبك الصغيرة كأنها تختصر حياتك كلها'.
على الطرقات، شاهد كريم عائلات تفترش الأرصفة: 'الناس جلسوا على الأرصفة كأنها بيوتهم الجديدة. بعضهم أشعل ناراً صغيرة ليُدفئ الأطفال، رغم أن الطقس لم يكن بارداً، لكنني أعتقد أن الخوف يجعل الإنسان يشعر بالبرد. لم يكن أحد يعرف أين يذهب'. خطيبته ندى تضيف: 'رأيتُ جيراني يركضون حاملين أولادهم. تركوا الأبواب مفتوحة، وكأنهم يعرفون أنهم لن يعودوا قريباً. كان المشهد نهاية فصل كامل من حياتنا'.
أما سليم، فقد وصل مع عائلته إلى بيت أقارب في الشمال. يروي: 'لم يكن البيت مجهزاً لاستقبالنا. خمس عائلات تجمعت في غرفتين. الأطفال ناموا على الأرض، والكبار سهروا يفكرون كيف سيدبرون الإيجار في الأيام القادمة. كل الأسعار قفزت بين ليلة وضحاها'. ويضيف: 'شعرت أننا نعيد تجربة أهلنا في الحرب الأهلية. النزوح ليس مجرد انتقال، بل انهيار شعورك بالأمان'.
في بعبدا، جلس معاذ مع خطيبته على كراسٍ بلاستيكية في حديقة تطل على الضاحية. يقول: 'كنا نرى الأضواء تسبق الأصوات. منظر غير واقعي: وميض في السماء يتبعه دويّ بعد ثوانٍ. لم أستوعب أنني أعيش حرباً حقيقية إلا في تلك الليلة'. ويضيف: 'كنت أظن أن النزوح مجرد عنوان في الأخبار. لكن حين رأيت الناس ينامون في سياراتهم والحدائق مليئة بالعائلات، أدركت أن الحرب تغيّر معنى البيت إلى الأبد'.
كانت بيروت في تلك الليلة مدينةً تُخلى قسراً، يتوزع أهلها بين الشوارع والمدارس الرسمية والبيوت المكتظة. لم يكن النزوح خياراً، بل غريزة بقاء جماعية طبعت الذاكرة اللبنانية بجرح جديد.
بعد عام: ذاكرة مفتوحة على الخوف
اليوم، بعد عام على ليلة الاغتيال والتهجير، لا تزال الذكرى حاضرة كجرح مفتوح. لم أعد إلى بيتي في الضاحية، ولا أرغب بالعودة. كلما مررت بجوار المنطقة، أستعيد تلك النظرة الأخيرة التي ألقيتها على الجدران التي احتضنت طفولتي. ليس الأمر مجرد خوف من القصف، بل رفض للعودة إلى مكان تحوّل إلى شاهد على الفقدان.
ليلى تصف المشهد بوضوح: 'الإنكار كان جماعياً. بالنسبة لنا، لم يكن اغتيال نصرالله مجرد حدث سياسي، بل انهيار يقين بأن الضاحية محصنة'. وتضيف: 'اليوم، عندما أفتح خزانتي وأجد حقيبة الأوراق جاهزة قرب الباب، أفهم أن الحرب لم تنتهِ بعد داخلنا'.
معاذ يرى التجربة من زاوية مختلفة: 'فهمت ماذا يعني أن تختزل هويتك في حقيبة وثائق. لم أفهم قبلها أن البيت ليس الجدران، بل الذاكرة التي تحملها معك. كلما تذكرت تلك الليلة، أشعر أنني أصبحتُ جزءاً من قصة بلدٍ آخر'.
أما كريم، فيعترف أن عمله كمصور ومخرج لم يشفِ جرحه: 'اللقطات تُرمَّم، يمكن تعديل الألوان وتصحيح الصورة، لكن الصوت يبقى. ما زلت أسمع دويّ تلك الغارة كلما صمتت المدينة'. خطيبته ندى تجيب بحسم عن سؤال العودة: 'لن أعود قريباً. كانت تلك اللحظة خاتمة فصل. حتى إن رمموا البيوت وزيّنوا الشوارع، الندبة أعمق من أن تُمحى'.
سليم بدوره يعترف أن النزوح ترك أثراً طويل الأمد: 'كل خبر قصف يوقظ الندبة. كأنني ما زلت هناك أركض بدرج البناية حاملاً أطفال أختي. اليوم، أسكن بيتاً جديداً، لكني أنام دائماً بملابس جاهزة للهروب'.
انتهت الأعمال القتالية باتفاق وقف إطلاق النار بوساطة أميركية فرنسية في 26 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، ودخل حيز التنفيذ فجر 27 نوفمبر/ تشرين الثاني لمدة ستين يوماً.
نص الاتفاق على وقف الهجمات المتبادلة، انسحاب تدريجي للقوات الإسرائيلية، وتمركز الجيش اللبناني واليونيفيل جنوب نهر الليطاني مع آلية متابعة دولية.
مع تذكّر اللبنانيين مرور سنة على الحرب، تبقى أسئلة عالقة. ماذا يبقى عندما تُجبَر على المغادرة خلال دقائق؟ فخلف كل خبر عاجل، هناك بيت يُفرّغ من ذاكرة أهله وأحلامهم.