حرب الجبل الثانية

كتب ناصر قنديل في 'البناء'

تشبه الحرب التي بدأت فصولها للتوّ في جبل العرب في سورية، الحرب التي عشنا فصولها لأعوام متتالية من 1982 حتى 1985 في جبال الشوف، عندما ترافق الاجتياح الإسرائيلي للبنان مع انتخاب الرئيسين بشير وأمين الجميل تباعاً، وصعود القوات اللبنانية إلى الشوف. يومها كان بشير الجميل بعد انتخابه رئيساً يطلق خطاباً يختلف عن خطابه كقائد للقوات اللبنانية بالحديث عن لبنان وطن لجميع أبنائه، وعن لبنان الـ 10452 كلم مربعاً، وعن طيّ صفحة الحرب ودولة لكل اللبنانيّين، وجاء من بعده أمين الجميل الذي كان له رصيد بين المسلمين وأوحى بأنه يحمل مشروعاً لطيّ صفحة الحرب الأهلية وتحقيق مصالحة وطنية تجمع كل اللبنانيين، لكن بعد شهور قليلة كان كل شيء في بيروت والجبل والضاحية، ولكن في الجبل خصوصاً يقول إن لبنان يستعدّ لجولة جديدة من الحرب.

كان الاحتلال الإسرائيلي في الجبل يتصرّف بما يخدم تسريع اشتعال هذه الحرب، ويقوم بكل ما يمكن أن يؤمن لها موارد الاشتعال، باللعب على علاقات الطائفتين الدرزية والمسيحية، والإيحاء لكل منهما بوقوفه في صفها وتقديم تسهيلات لها لتمكينها من الانتصار، وكانت القوات اللبنانيّة قد تكفّلت بممارستها العدائية في الجبل و تطاولها على كرامات الدروز بمن فيهم أولئك المسالمين الذين لا علاقة لهم بالسياسة، وكان كل ما ينقل عن تلك الممارسات يتكفّل بتجييش دروز جبل لبنان لحمل السلاح والمواجهة دفاعاً عن وجودهم وكرامتهم وأرضهم وعرضهم ومقاماتهم الدينية التي لم تنجُ من الانتهاكات المهينة والاستفزازية، حتى اندلعت جولات متلاحقة من الحرب وتنقلت بالكوارث التي خلفتها على العزّل والمسالمين من المسيحيين والدروز بالتهجير والقتل وتدمير البيوت.

ما يجري في جبل العرب يستعيد تلك الصور التي حفظتها الذاكرة اللبنانيّة عما جرى في جبل لبنان، سواء لعدم تحوّل خطاب بشير وأمين الجميل، الرئيسين الى سلوك يضبط تصرفات المحازبين، تماماً كما هو الحال مع خطاب الرئيس الانتقالي في سورية وسلوك الوحدات العسكريّة التي لبست ثوب الدولة ولا زالت تتصرّف بعقلية الميليشيات الطائفية العنصرية، وكما حدث في الساحل السوريّ تحفل وسائل التواصل الاجتماعي والفيديوهات المحملة عليها لما يجري في السويداء بصور إلحاق المهانة بكبار السن والمسالمين وقتل الجرحى والإعدامات الفورية، والخطف والإساءات اللفظيّة للمواطنين السوريين في السويداء، تماماً كما حدث على يد القوات اللبنانيّة، والإسرائيلي الواقف على طرفي الحرب يفرك يديه فرحاً بنجاحه في استدراج الجميع لتصديق تطميناته، والوقوع في فخاخه، والسعي لكسب ودّه وعدم الانتباه إلى أنّه العدو المشترك للجميع.

وهم الانتصار العسكريّ في حرب جبل العرب لسلطات دمشق يشبه وهم الانتصار العسكريّ الذي سكن عقل الكتائب والرئيس الآتي من صفوفها، عندما أصبح الجيش اللبناني جزءاً من هذه الحرب، والنتيجة هي ذاتها، عندما تتحوّل الحرب إلى حرب أهليّة فلا منتصر فيها والجميع خاسرون، وميدانياً الذين يدافعون عن بيوتهم وكرامتهم وأعراضهم لديهم ما يموتون من أجله، بخلاف الآتين بخلفيّات حاقدة مريضة لكن الذين تعوزهم الروح والدافع للتضحية، ووهم العدد بناء على نسب التعداد الطائفيّ الذي يعمي عيون المهاجمين، فالغالبية الطائفية تشكل خلفية هؤلاء نظرياً، لكنها لا تشاركهم أحقادهم ولا ترى سبباً وجيهاً للانخراط بهذه الحرب العبثية، وبينما تستنفر الحرب كل أبناء المناطق المستباحة تحت عنوان الدفاع المقدّس، تبدأ قدرة المهاجمين على تعبئة القوى اللازمة الحيويّة بالانخفاض والتراجع، حتى يصبح المرتزقة والموظفون وعديمو الحافز هم الغالبيّة بين المهاجمين، فيبدأ العد التنازليّ لحربهم.

في الذاكرة اللبنانيّة إن الحرب الأهلية في الجبل بدأت بالانحسار عندما بدأ الإسرائيلي بالانسحاب تحت ضربات المقاومة، والخشية في جبل العرب أن يؤدي ضعف الرؤية الواضحة على طرفي الصراع لخطورة الدور الإسرائيلي، وغياب أي مقاومة فعلية جدية للتوغل والانتهاك الإسرائيلي لأرض سورية وسيادتها، في ظل ذهاب السلطة الحاكمة إلى ما هو أبعد مما ذهبت إليه سلطة أمين الجميل نحو اتفاق مع الاحتلال عُرف يومها باتفاق 17 أيار، حيث تقول التقارير إن التطبيع مع الاحتلال دون استعادة الجولان التزام قدّمته الحكومة السورية ولو تأخّر تظهيره إعلامياً، في ظل تعاون موعود بين السلطات الجديدة في دمشق وجيش الاحتلال تحت شعار قتال العدو المشترك المتمثل بإيران وحزب الله، كما تقول بيانات حكومة دمشق.

قيل في الماضي إن التاريخ لا يعيد نفسه مرّتين، وإن فعل في المرة الأولى على شكل مأساة وفي المرة الثانية على شكل مهزلة، لكنه هذه المرّة وفي الحالتين على شكل مأساة.