اخبار لبنان
موقع كل يوم -المرده
نشر بتاريخ: ٢٧ تشرين الثاني ٢٠٢٥
اغتيال القائد الجهادي هيثم الطبطبائي في قلب الضاحية الجنوبية ليس حدثاً منفصلاً عن سياقاته، ولا مجرد «إنجاز استخباراتي» استغلّه العدو في لحظة مناسبة. بل هو فصل من مسار طويل، في مرحلة ما بعد الحرب الأخيرة على لبنان والمقاومة، وله ما سيليه في الحسابات الاستراتيجية لمستقبل الصراع.
فاختيار شخصية لعبت دوراً محورياً في معركة «أولي البأس» وما تلاها، واستهدافها في حارة حريك، وفي توقيت سياسي لبناني شديد الحساسية، يكشف عن تحوّل أعمق في المفهوم الاستراتيجي – العملياتي للعدو. وهو تحول لا ينبغي أن يُقرأ باعتباره فقط استغلالاً لفرصة ميدانية لاحت، بل كرغبة إسرائيلية واضحة في إعادة رسم قواعد اللعبة بما يتجاوز حدود الاشتباك التي كانت سائدة.
قراءة هذا الحدث تقتضي النظر إلى العام الذي تلى الحرب، والذي لم يتوقف خلاله العدو عن الرهان على سلسلة من الفرضيات: تفكك البنية القتالية للمقاومة بفعل كثافة الاغتيالات والضربات النوعية؛ تراجع الجاهزية بفعل النزوح والدمار والضغوط الاجتماعية؛ اكتمال «النصر السياسي» عبر استكمال الحكومة اللبنانية ما عجزت عنه إسرائيل خلال الحرب نفسها. وإلى جانب ذلك، كان التعويل كبيراً على أن تُستخدم ورقة إعادة الإعمار كأداة ابتزاز لإخضاع المقاومة لشروط إسرائيلية وأميركية واضحة.
غير أن معظم تلك الرهانات آلت إلى نتائج معاكسة: المقاومة مضت في إعادة ترميم هياكلها التنظيمية والقيادية، واستعادت جزءاً مهماً من بنيتها العملياتية؛ ونجحت في إعادة تنظيم قدراتها على نحو أثار قلقاً متزايداً في المؤسستين العسكرية والأمنية الإسرائيليتين. في المقابل، بدا للعدو أن منسوب الإنجازات التي حققها خلال الحرب آخذ في التآكل، وأن ما تحقق بالنار لا يمكن تثبيته بالسياسة.
من هذا المنطلق تحديداً، يصبح مستوى الهدف الذي جرى اغتياله مفهوماً ضمن مسعى العدو لضرب دورة التعافي التي دخلتها المقاومة، ومحاولة التأثير في استراتيجيتها العملياتية – بل وحتى السياسية – عبر استهداف شخصية يعتبرها العقل الإسرائيلي أحد الأعمدة المركزية في عملية إعادة البناء الداخلي. والاغتيال هنا ليس إظهاراً لقدرة تقنية فقط، بل ترجمة لمفهوم امتلاك المبادرة، والقدرة على تحديد الزمان والمكان والطبيعة، وعلى إيصال رسالة مفادها أن الاستهدافات اللاحقة ستكون ضمن هذا المستوى، من دون أي حدود جغرافية.
وجود حكومة تعادي المقاومة وتصر على تجريد لبنان من عناصر قوته فرصة قد
لا تتكرر للعدو
والضاحية، في هذه العملية، ليست مجرّد مسرح جغرافي للضغط. اختيارها يُراد له أن يشكّل كسراً متدرّجاً لقواعد الاشتباك التي عرفتها مرحلة ما بعد الحرب، وإشارة إلى أن الحدود التي رُسمت – أو افترض البعض أنها راسخة – لم تعد تحكم سلوك العدو أو تحدّ من خياراته.
وبهذا المعنى، فإن الضربة لم تختبر فقط ردّ فعل المقاومة المحكومة باعتبارات تقوم حتى الآن، ربما، على أولوية تجنيب لبنان حرباً إضافية، بل اختبرت أيضاً الإرادة السياسية للدولة اللبنانية وقدرتها على التعامل مع العدوان بوصفه استهدافاً للعاصمة، لا حادثاً أمنياً يمكن احتواؤه بلغة ضمن السقف المقبول إسرائيلياً، أو ما قد يسمونه اعتبارات ديبلوماسية، في جوهرها عدم إغضاب الأميركي على حساب سيادة لبنان وأمنه. أمّا مجتمع المقاومة، فهو الحلقة التي راهن عليها العدو لسنوات، آملاً بأن تتراكم الضغوط والحملات النفسية والاستهدافات الفردية لتحدث شرخاً في الحالة الاجتماعية والثقافية التي تُعدّ العمود الفقري للصمود، رغم أن كل التجارب السابقة كذّبت هذا الرهان.
لكن الأخطر في الحسابات الإسرائيلية اليوم، هو المتغير الداخلي اللبناني. فوجود حكومة تتّخذ موقفاً عدائياً من المقاومة، وتصر على تجريد لبنان من عناصر قوته في الدفاع وحماية الوجود والمستقبل، شكّل بالنسبة إلى العدو فرصة قد لا تتكرر. هذا التموضع الرسمي، بما يحمله من ميل واضح إلى ربط أي دعم خارجي أو خطة إنقاذية بملف السلاح والجنوب، أتاح لإسرائيل أن تنظر إلى الحكومة الحالية بوصفها «شريكاً موضوعياً» في الضغط. وظهر هذا الدور خصوصاً في إصرار الحكومة على تعطيل إعادة الإعمار أو الإمساك بها كملف تفاوضي، الأمر الذي يراه العدو نجاحاً مدوّياً يخدم استراتيجيته التقليدية في فصل البيئة عن المقاومة وتحميل المقاومة كلفة الدمار، بدل التركيز على حقيقة أن العدو نفسه هو من دمّر المنازل والقرى. غير أن مجتمع المقاومة خيّب رهانات العدو سابقاً ولاحقاً.
ضمن هذا السياق، لم يُقدِم العدو على اغتيال الطبطبائي انطلاقاً من حسابات اللحظة، بل من نظرته إلى «ما بعد المواجهة المقبلة»: أيّ لبنان يريد، وأيّ صيغة سياسية يأمل أن تتولى إدارة البلاد إذا اشتعلت جبهة الشمال؟ الرهان هنا أن تتعزز قبضة حكومة معادية للمقاومة، بحيث تكون جاهزة لفرض مسار جديد في الجنوب، سواء عبر نزع السلاح، أو لعب دور أكثر خطورة في رسم قواعد اشتباك تحوّل المقاومة إلى حالة أمنية مطاردة داخل الحدود.
مع ذلك، يدرك العدو جيداً أن استهداف شخصية قيادية كبرى لا يُختزل بقطع رأسٍ من هرم، بل قد يتحول إلى عامل تسريع لتماسك بنية المقاومة وقدرتها على تعويض خسائرها. فعبر تاريخ طويل من المواجهات، أثبت حزب الله أنه قادر على إعادة إنتاج كوادره وقياداته، وتحويل الضربات إلى مناسبة لإعادة البناء لا إلى بداية انهيار. لذلك، ورغم القسوة التي حملها هذا الاغتيال، فإن جوهر الصراع يبقى أبعد وأعمق من ضربة أمنية في قلب العاصمة.
والسؤال الحقيقي اليوم هو ما إذا كان سيُسمح للعدو بأن يرسم وحده مستقبل لبنان وحدود أمنه، وأن يستخدم الدولة وأزماتها وأوجاع الناس وقراهم المدمرة كأدوات في مشروعه، أم أن لبنان – عبر مقاومته ومجتمعه وقواه المؤمنة بسيادته – لا يزال قادراً على فرض معادلة مغايرة: معادلة تقول إن الدفاع عن الأرض والكرامة ليس رفاهية ولا عبئاً، بل هو شرط وجودي لأي مستقبل وطني واقتصادي وسياسي يمكن البناء عليه. هكذا وحده يفهم اغتيال الطبطبائي: لا كحدث منفصل، بل كجزء من معركة طويلة على تعريف ما يعنيه أن تكون للبنان قدرة على حماية نفسه، وما يعنيه أن تبقى المقاومة عنصراً مؤسساً في معادلة أمنه ومستقبله.











































































