اخبار لبنان
موقع كل يوم -أي أم ليبانون
نشر بتاريخ: ١٢ تموز ٢٠٢٥
كتبت جومانا زغيب في 'نداء الوطن':
صحيح أنّ تغيير الخرائط والحدود أمر صعب جدًا، لكنه غير مستحيل، علمًا أنّ الأسهل هو إحداث تغييرات بنيوية في بعض الدول لا تصل إلى حدّ تغيير الخرائط، بل تعيد تركيب الأنظمة بشكل يعزّز واقع التنوّع، ويرسم حدودًا داخلية معيّنة ومدروسة تكون أقرب إلى ضمانات وتساهم في الحفاظ على الاستقرار وتجنّب النزاعات الدورية.
وهذا الواقع ينطبق بنسبة معيّنة على الشرق الأوسط الجديد، بحيث يخضع أي تطوير أو تعديل لسقف دولي تقوده الولايات المتحدة الأميركية برئاسة دونالد ترامب، كونها اللاعب الأساسي في المنطقة. ومعلوم أن الأميركيين لا يحبّذون التورّط في الصراعات الداخلية سواء كانت سياسية أو طائفية أو إتنية إلّا بالحدّ الأدنى، ولو أنهم يسعون أحيانًا إلى دعم مكافحة التطرّف وتجلياته أمنيًا وإنسانيًا.
ولا يبدي دبلوماسيون أميركيون عندما يفاتحهم سياسيون لبنانيون بكلام حول النظام الفدرالي على سبيل المثال، أي تحفظ أو انزعاج، باعتبار أن الفدرالية تعتمدها نظامًا أبرز الدول الغربية وغير الغربية بنسبة أو بأخرى، على غرار الولايات المتحدة وكندا والمكسيك والبرازيل وألمانيا وبريطانيا وسويسرا وبلجيكا وروسيا والهند وأستراليا… ويعتبرون أنّ المسألة تعود إلى خيار اللبنانيين في ما يرونه مناسبًا، علمًا أن الأميركيين يشجعون التعدّدية وكل ما يساهم في حمايتها ومنح الحقوق للأقليات. ويلفت هؤلاء إلى أن الأهم هو توافق اللبنانيين على الصيغة المرجوّة أو على تطوير النظام، علمًا أنهم كانوا يوحون بأن العقدة الكبرى تتمثل بـ 'حزب اللّه' الذي كان يهيمن على الدولة والقرار، بينما اليوم بات طرح بعض الأفكار التغييرية والتطويرية أسهل وأكثر قبولًا.
ولا بدّ في هذا السياق من التوقّف عند كلام معبّر للموفد الأميركي توم برّاك الذي لم يتردد في القول 'إن الغرب فرض منذ قرن من الزمان خرائط وانتدابات وحدودًا مرسومة بالحبر، وإن اتفاقية 'سايكس – بيكو' قسّمت سوريا والمنطقة لأهداف استعمارية لا من أجل السلام'. واعتبر 'أن ذاك التقسيم كان خطأ ذا كلفة على أجيال بأكملها ولن يتكرر مرة أخرى، وأن زمن التدخل الغربي انتهى والحلول تنبع من داخل المنطقة وعبر الشراكات القائمة على الاحترام المتبادل'.
ويقول دبلوماسي غربي مخضرم، إن كلام برّاك يحمل مزيجًا من الجرأة والضبابية في آن، فهو يدين الاتفاقية الشهيرة وتداعياتها، لكنه لا يدعو مباشرة إلى تغيير ما فرضته من حدود وخرائط، وهذا يعني أنه يعبّر عن رغبة في تصحيح بعض الجوانب السلبية، وترميم معادلات صدامية أدّت إلى حروب وصراعات مؤلمة بخلفيات متنوّعة، الأمر الذي يسمح بإعادة ترسيم داخلية في أكثر من بلد بما يحافظ على الاستقرار والعدالة والمساواة، وعلى الأقليات وخصوصياتها وحقوقها.
ومن الواضح أن الحكم الذاتي لكردستان في شمال العراق يحظى برعاية أميركية وغربية، في وقت لفت ارتياح أميركي لإنهاء النزاع التاريخي بين الدولة التركية وحزب العمال الكردستاني، الأمر الذي يسهل على واشنطن رعاية صيغة معقولة في سوريا تريح الأكراد فيها نسبيًا مع الحفاظ على الوحدة الوطنية، علمًا أنّ المكوّنات الأخرى التي تندرج في إطار الأقليات تطمح إلى الحصول على ضمانات معينة على صعيد الشراكة والحقوق.
ماذا عن لبنان؟
ثمة إشكالية كبيرة تبرز أكثر فأكثر على خلفية تجربة 'حزب اللّه' وما يمثله من هيمنة إيرانية، معطوفة على هيمنة سورية للنظام السابق، ما أرخى بتداعيات خطرة على النسيج اللبناني المتنوّع وضرب الشراكة في صميمها، وساهم في إحياء تطلّعات مشروعة نحو تركيبة جديدة تؤكد مركزية الدولة، إلّا أنها تلحظ لا مركزية موسّعة لا تقتصر على الشأن الإداري البحت بل تشمل جوانب مالية وأمنية وقانونية، قد لا تصل إلى سقف الفدرالية، لكنها توفر ضمانات بعدم انفجار الصراعات والنزاعات الدورية كل خمسة عشر عامًا تقريبًا بحسب الوتيرة المعهودة في لبنان.
واللافت أنّ قوى ورموزًا معروفة بتوجّهاتها العلمانية والتغييرية باتت تتقبّل الذهاب بعيدًا وصولًا إلى طرح الانفكاك السلمي والطوعي بين من يريد لبنان الميثاق والشراكة والتوازن وبين من يرفضه، وبالتالي فإن خيارها الأول هو تعويم الميثاق الوطني بمعزل عن الأعداد والأرقام والأحجام كخيار أول، وإلّا الانتقال إلى واقع مختلف.
وترى أوساط سياسية مسيحية أن تعديل التركيبة أمر لا مفرّ منه، ويفترض أن يتمّ الانكباب عليه جديًا بعد الانتخابات النيابية المقبلة، سواء نجحت الدولة في استعادة سيادتها الكاملة أو تعثرت أو تأخرت. فالتركيبة الحالية للنظام أنهكت اللبنانيين ودفعت بلبنان إلى تقهقر مريع بعدما كان الرائد في الشرق الأوسط على صعد عدة، يوم كانت المارونية السياسية لها الكلمة العليا.