اخبار لبنان
موقع كل يوم -جريدة اللواء
نشر بتاريخ: ١٣ حزيران ٢٠٢٥
أثار الروائي السوداني الفرزدق عبدالله في روايته الأخيرة «سوق الآخرة» اهتمام النقاد والقرّاء على حد سواء، لما تحمله من رموز فلسفية واجتماعية عميقة تنسج بين الواقع والخيال. يتناول الحوار رحلة الكاتب في كتابة الرواية، مصادر إلهامه، الشخصيات التي جسّدها، والرسائل الفكرية والأخلاقية التي حاول إيصالها. كما يفتح لنا الكاتب نافذة على رؤيته للعلاقة بين الإنسان والمجتمع، والنقد الذي وجّهه لبعض الأيديولوجيات والنظم السياسية، إضافة إلى مشروعه الأدبي المستقبلي الذي ينبع من الواقع المؤلم الذي يعيشه وطنه السودان.
{ ما الذي ألهمك لكتابة «سوق الآخرة»؟ هل هناك تجربة شخصية أو حادثة معيّنة أثّرت في فكرة الرواية؟
- في البداية أتوجه بالشكر لصحيفة «اللواء» العريقة، متمثلة في شخصكم الكريم، لفرد هذه المساحة وهذا الحوار، لتسليط بعض الضوء على عملي الأخير، رواية «سوق الآخرة».
نحن ككتّاب، عادةً ما تتشكّل عدة عوامل لتمثل مصدر إلهام لعمل أدبي ما، هذه العوامل قد تكون حدثاً اجتماعياً أو سياسياً أو حتى حقبة تاريخية ما، أو قد يكون مصدر هذا الإلهام شخصاً أو مجموعة أشخاص، أو تحتشد جميع تلك العوامل لتشكّل معاً مصدراً لهذا الإلهام، كما هو الحال في رواية «سوق الآخرة»، فقد اجتمعت فيها هذه العوامل بالإضافة إلى عامل المكان؛ «سوق الآخرة» برمزيته التاريخية والاجتماعية وشخوصه الفاعلين في تلك الحقبة الزمنية المعينة.
{ هل ترى أن الرواية تستند إلى أحداث واقعية، أم أنها تجسيد لخيال كامل؟
- تستحضرني إحدى مقولات الكاتب المصري الكبير نجيب محفوظ - عليه رحمة الله -: «أحياناً يكون الخيال أكثر واقعية من الواقع نفسه».
فخيالنا الذي نتصوّره ومن ثم نجسّده ككلمات على صفحات عمل أدبي معيّن، بالضرورة يتأثر ويتشكّل وفق أحداث واقعية معينة، لكن نحن ككتّاب نقف في منطقة محايدة بين الواقع والخيال.
{ عنوان الرواية «سوق الآخرة» يبدو محملاً بالكثير من الرمزية، كيف ترى هذا العنوان مرتبطاً بالأحداث والشخصيات؟
- عنوان الرواية مستمد من البُعد المكاني الذي تدور فيه أحداثها المفصلية والتي تتشكّل على أثرها بقية أحداث الرواية لتمتد إلى فضاءات جغرافية أخرى داخل وخارج حدود السودان، فهذا السوق، برغم تواضع حجمه وموقعه في مدينة ود مدني وسط السودان في حي الدباغة، أحد أقدم أحياء تلك المدينة العريقة المناضلة، نجد رمزيته التاريخية والاجتماعية أكبر من ذلك بكثير، فكان هذا المكان وشخوصه من مصادر الإلهام المهمة التي شكّلت وجدان الكاتب في هذا العمل الروائي.
{ هل ترى أن الرواية تقدّم إجابات واضحة على القضايا التي تطرحها، أم أنها تترك القارئ في حالة من التساؤل والبحث؟
- تطرح الرواية تساؤلات عدة حول قضايا معينة، لكن حاولت في طريقة طرحها أن أعطي القارئ المساحة الأكبر للانطلاق والبحث بطريقته الخاصة، فبالتأكيد للقرّاء خلفياتهم الفكرية والثقافية وقِيَمهم التي تشكّل وتؤثّر في تناولهم وتعاطيهم مع القضايا والتساؤلات التي تطرحها الرواية.
فأنا مؤمن جداً بنظرية رولان بارت بأن «المعنى الحقيقي للنص يجب أن ينبثق من القارئ نفسه وليس من نوايا المؤلف، وأن المؤلف ليس المصدر الوحيد للمعنى»، ذلك بالضرورة ينسحب على التساؤلات والقضايا التي يطرحها الكاتب من خلال عمله.
{ كيف تصف العلاقة بين الإنسان والمجتمع في الرواية؟ هل هناك نقد واضح لبعض الأيديولوجيات أو الأنظمة الاجتماعية؟
- يرى ابن خلدون في مقدمته أن الاجتماع البشري ليس مجرد اختيار، بل هو ضرورة طبيعية تفرضها حاجات الإنسان، ويرى أيضا أن تطور المجتمعات يعتمد على عوامل مثل العصبية، التي تعبّر عن الشعور بالانتماء والولاء لمجموعة معينة.
ومن هذا المنطلق طرحت الرواية أهمية الانتماء وارتباط الإنسان السوداني بمجتمعه وأرضه وأسرته بقوة. وأي أيديولوجيات تطرح من قبل تنظيم أو نظام يجب أن تعزز الهوية الجماعية لتلك المجتمعات وتحقيق العدالة الاجتماعية في المقام الأول، عكس الحال في معظم محيطنا العربي بصورة عامة والسودان بصورة أخص، وهو تبنّي ما أسمّيه الأيديولوجيات المستوردة ذات الوصفات الجاهزة، وهذا نقد قدمته الرواية بصورة واضحة متمثلة في نظام الحكم وأيديولوجيته المتبعة وعلاقتها بإنسان هذا المجتمع.
في مجمل الحديث في الرواية، محاولات للاحتجاج بالقلم والكلمات، على واقع أيديولوجي معيّن فرضه نظام سياسي غاشم في حقبة زمنية من أصعب الحقب التي مرَّ بها السودان، حينما لا يجد الكاتب غير ذلك ليحتجّ به، ولكن دون إقحام القارئ في قضايا سياسية قد تصيبه بالملل أثناء قراءته للرواية.
{ هل تعتقد أن «سوق الآخرة» تنقل رسالة أخلاقية محددة؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما هي تلك الرسالة؟
- «سوق الآخرة» تحاول أن تنقل في طياتها رسائل أخلاقية عديدة، أهمها روح الانتماء للوطن والمثابرة في البحث عن البدايات الجديدة ومقاومة الظلم والظالمين، والالتزام تجاه الحب والعلاقات الإنسانية الأخرى.
{ هل تجد أن النقاشات أو التأويلات المختلفة التي يطرحها القرّاء حول الرواية تضيف أبعاداً جديدة لفهم النص؟
- نحن نكتب ويخرج النص إلى القارئ حين يتم نشره، ومنذ تلك اللحظة يصبح النص مملوكاً للقرّاء، وبالتالي تأويلاتهم ونقاشاتهم هي الأهم وتضفي أبعاداً أخرى قد تكون جديدة حتى على الكاتب نفسه، وتصبح تأويلات الكاتب ذات درجة أقل في الأهمية في تقديري الخاص مقارنة بتأويلات القرّاء.