اخبار لبنان
موقع كل يوم -نداء الوطن
نشر بتاريخ: ١٣ شباط ٢٠٢٥
درجت في الحياة السياسية اللبنانية مع ظهور 'حزب الله' عبارة 'ولاية الفقيه' ضمن مصطلحات التوصيف السياسي لمشروع تصدير الثورة الإسلامية في إيران إلى لبنان. فقد استعملها قادة الجماعة للتدليل على الولاء لمرشد الثورة الإسلامية السيد علي خامنئي وارتباطهم المطلق بمشروع الدولة الإسلامية العامة الذي أرساه السيد روح الله الخميني بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران في شباط 1979، فأضحى المرشد الأعلى للثورة هو الولي الفقيه 'نائب الإمام عجل الله تعالى فرجه'، وفق شبكة المعارف الإسلامية التابعة لـ 'حزب الله'. وله وكلاء في إيران وخارجها. وأمين عام 'حزب الله' وكيله الأول في لبنان. وهو ما حصل أخيراً مع تعيين الشيخ نعيم قاسم خليفة السيد حسن نصر الله وكيلاً عاماً للخامنئي في لبنان بناء على رسالة موجهة من الأخير لقاسم. كما استعمل هذا المصطلح الأخير للدلالة على ارتباط 'حزب الله»' وولائه للجمهورية الإسلامية في إيران. وبين هذه وتلك، تبقى الأسئلة: ما هي 'ولاية الفقيه'؟ ولماذا هناك ولاية للفقيه؟ وهل هي شأن ديني عام للشيعة في لبنان؟ أم شأن جماعة لها رؤيتها الدينية والسياسية الخاصة؟
الفقيه والولاية بعد 'الغيبة الكبرى'
تركت غيبة الإمام المهدي الكبرى التي بدأت في القرن العاشر الميلادي بعد وفاة نائبه الرابع الخاص، فراغاً كبيراً. ولم يعد للشيعة الإثني عشرية تواصل مع إمامهم، سواء مباشرة أو عبر نواب خاصين. وباتت أمورهم بيد الفقهاء، وهم رجال الدين الذين يستخرجون الحكم الشرعي من مصادره المقررة. وانقسم فقهاء الشيعة إلى فئتين: أصولية تعتمد في مصادرها المقررة على القرآن والسنّة والإجماع والعقل. وإخبارية، تكتفي بالقرآن والسنّة وترفض حجيّة الإجماع والعقل.
وفق كتاب 'الفقه السياسي الشيعي من اعتزال الفقيه السلطة إلى القبض عليها' الصادر من ضمن 'الموسوعة الشيعية' عن 'أمم للتوثيق والأبحاث' عام 2023، اعتمد الإخباريون نظرية الانتظار التي تميل بالفقيه الابتعاد عن الشؤون السياسية ومناصب السلطة نهائياً. وتعتبر أن دوره في عصر الغيبة، اعتزال الساحة السياسية الغَصبِيَّة والاضطلاع بنشاطه الديني التبليغي، إضافة إلى ممارسة التقيَّة وعدم تعريض النفس للمخاطر، وانتظار معاناة الأرض ظلماً وجوراً كمقدمة لظهور الإمام المهدي كي يملأها قسطاً وعدلاً.
أما الأصوليون، فقد تدرجوا في رؤيتهم من التعامل مع السلطة حتى لو كانت غاصبة إلى القبض عليها. واعتبر الفقهاء الشيعة الأصوليون الأوائل، من المفيد إلى الشريف المرتضى وأبو جعفر الطوسي وأبو الفتح الكراجكي الطرابلسي، أن وجود السلطة، وإن كانت غاصبة لحق الإمام، ضروري من أجل تسيير مصالح الناس وحفظ الصالح العام ودرء الأفساد. وأجازوا التعامل معها من دون شرعنتها. وشهد القرن الرابع عشر تجاوزاً محدوداً لهذه الرؤية من خلال الشهيد الأول محمد بن مكي عبر النيابة عن الإمام ووكالته. أما التطور الكبير في هذا التوجه، فكان مع المحقق علي بن عبد العالي الكركي الذي هاجر إلى البلاد الصفوية عام 1501، وتقلّد النيابة العامة عن الإمام بصفة رسمية وبقرار من الشاه الصفوي طمهاسب. واكتسب صلاحيات مطلقة لإدارة العمل الحكومي الديني. ويعتبر الكراجكي أول من كسر الحاجز بين الفقيه والسلطة ، وهو من أسس لمشروعية تدخل الفقهاء في السلطة بتحرر وبعيداً من المسوغات الشرعية التي كان الفقهاء يعملون على أساسها قبله، كما تخلّى عن التقية في خطابه الديني بخصوص العقائد الشيعية.
ولاية الفقيه المطلقة بين النظرية والتطبيق
شهد العصر القاجاري في إيران ولادة 'ولاية الفقيه المطلقة' مع المحقق أحمد بن محمد النراقي من خلال كتابه 'عوائد الأيام'، متجاوزاً مشاركة الفقيه في السلطة إلى جانب السلطان الزماني، ومتجاوزاً حدود النيابة التي كان متعارفاً عليها من قبل، من قبيل التبليغ والإفتاء وإقامة الحدود والولاية على الأمور الحِسبية، إلى 'كل ما ثبت للنبي والإمام المعصوم فيه الولاية إلا ما أخرجه دليل إجماع أو نص أو غيرهما'. أي أن الفقيه، يحل في مرتبة الرسول والإمام في زمن غيبته بالنسبة إلى الصلاحيات. فله ما لهما، إلا إذا جاء خلاف ذلك في النص الديني أو الإجماع.
انتظرت هذه النظرية الفقهية قرناً ونيفاً لتطبيقها من خلال الخميني مع انتصار الثورة الإسلامية في إيران. وتم وضع دستور جديد للبلاد على أساس ولاية الفقيه التي باتت أعلى سلطة مطلقة في البلاد. وبات بمقدور الولي الفقيه أن يحكم انطلاقاً من المصلحة العامة وفق رؤيته. كما أن أحكامه 'مقدمة على جميع الأحكام الشرعية الفرعية التي تزاحمت معها'. وانتشرت هذه النظرية في لبنان بشكل واسع مع إنشاء 'أمة حزب الله'.
لا سند فقهياً معتبراً لـ'ولاية الفقيه'
تُعتبر نظرية 'ولاية الأمة على نفسها' للفقيه اللبناني ورئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الراحل الشيخ محمد مهدي شمس الدين، هي النظرية الفقهية الأكثر ارتباطاً وترسيخاً في الواقع اللبناني. فبرأي شمس الدين، أن الأمة لها الولاية على نفسها تحت سقف الشريعة الإسلامية التي أوكلت أمرها لها، وهي أي الأمة، التي تدير أمورها السياسية، وتختار في نطاق وحدة الأمة شكل نظامها السياسي الذي يناسبها، ويحاكي واقعها الخاص الزماني والمكاني 'على أساس الشورى'. ويرى شمس الدين أن مسؤولية الفقهاء في هذا العصر محصورة بـ'بيان الأحكام الثابتة الشرعية'، ويقضون في الخصومات ويمارسون دورهم في الإصلاح والإرشاد، كما اعتبر أنه في حال وجود الدولة، فإنها، أي الدولة، قد تكون قادرة على تولي مصاديق 'الولاية الحسبية' فيكون بقاؤها بيد الفقهاء محلّ نظر. كما رفض شمس الدين اعتبار ولاية الفقيه مسألة اعتقادية من أصول الدين، فبرأيه ولاية الفقيه المطلقة لا تملك سنداً فقهياً وكلامياً معتبراً لإثباتها، بل تقوم على اعتبارات سياسية.
يظهر مما سلف أنه لا يوجد تلازم بين مصطلح 'ولاية الفقيه' وشيعة لبنان، فتاريخ الفقهاء في لبنان تنوع بين مختلف نظريات الفقه السياسي من اعتزال السلطة إلى المشاركة فيها إلى القبض عليها والأمثلة على ذلك كثيرة، وبالتالي يمكن اعتبار 'ولاية الفقيه' شأن جماعة داخل الطائفة الشيعية في لبنان تؤمن بها وتُلزم بها، لا شأناً شيعياً لبنانياً عاماً دينياً كان أو سياسياً.