اخبار لبنان
موقع كل يوم -صحيفة الجمهورية
نشر بتاريخ: ١٩ أيار ٢٠٢٥
ساهمت الانتخابات البلدية والاختيارية وما رافقها، في التعتيم الإعلامي على قرار المجلس الدستوري المتعلق بإصدار موازنة 2025 بمرسوم صادر عن مجلس الوزراء في 2025/6/3. فعلى رغم من أهمّيته المتعلقة بانعكاساته على استقلالية المجلس الدستوري بالنسبة إلى السلطة التشريعية، لم يحظَ هذا القرار لدى وسائل الإعلام حتى ببضعة كلمات تُنبئ بصدوره.
في 2025/3/26 صدر عن المجلس الدستوري، بأكثرية 7 من أعضائه ومخالفة القاضيَين ألبرت سرحان وفوزات فرحات، القرار الذي أعلن بموجبه المجلس صلاحيّته لمراقبة دستورية مرسوم الموازنة الصادر عن رئيس الجمهورية عملاً بأحكام المادة 86 من الدستور. وتجدر الإشارة إلى أنّ القاضي الدستوري أبطَل في هذا القرار، ضمن إطار مراقبته لمضمون المرسوم ومواد عدة من المرسوم عينه. إلّا أنّه نظراً لضيق المكان ولأهمّية مسألة الصلاحية، لن نتعرّض في هذه العجالة إلى مسألة صلاحية المجلس الدستوري.
ضمن هذا الإطار، يجب التذكير أنّ الدستور لم يُخصِّص للمجلس الدستوري إلّا المادة 19 منه، التي تحدّد صلاحيّته كما يلي: «ينشأ مجلس دستوري لمراقبة دستورية القوانين والبتّ في النزاعات والطعون الناشئة عن الانتخابات الرئاسية والنيابية». إلّا أنّ المادة 18 من قانون إنشاء هذا المجلس، الصادر في 1993/7/14، تنصّ خلافاً للمادة 19، على أنّ المجلس يتولّى «الرقابة على دستورية القوانين وسائر النصوص التي لها قوة القانون». انطلاقاً من هذَين النصَّين المتناقضَين، كان على المجلس أن يُجيب، في معرض بتّه بمراجعة النواب، عن السؤالَين الآتيَين: هل أنّ مرسوم إصدار الموازنة بقرار من مجلس الوزراء يُعتبَر من «النصوص التي لها قوة القانون؟»، وفي حال كان الجواب إيجابياً، هل أنّ المجلس الدستوري هو الهيئة الصالحة لمراقبة دستورية هذه النصوص وبالتالي مرسوم الموازنة؟
في معرض ردّه على السؤال الأول، تبنّى المجلس الدستوري التعريف الذي اعتمدناه في مقال سابق لنا (الرقابة القضائية على مرسوم الموازنة: القضاء الإداري أم القضاء الدستوري؟ (جريدة «الجمهورية» 20/3/2025، ص. 6)، إذ اعتبر «أنّ النصوص التي لها قوة القانون هي تلك التي تضطلع بها السلطة التنفيذية، أمّا بناءً على تفويض من السلطة التشريعية، أي المراسيم التشريعية، وأمّا لتلافي تلكّؤ المجلس النيابي في القيام بدوره كما في المادة 86 من الدستور». إلّا أنّه بدل أن يستنتج من هذا التعريف النتيجة المنطقية التي استقرّ عليها الاجتهاد الفرنسي واللبناني منذ عقود، ويعتبر أنّ هذه النصوص تبقى أعمالاً إدارية خاضعة لرقابة القضاء الإداري، طالما أنّه لم يُصدَّق عليها من مجلس النواب، أعلن المجلس الدستوري صلاحيّته لمراقبة مرسوم الموازنة، بالتالي سائر النصوص التي لها قوة القانون.
للوصول إلى هذه النتيجة علّل المجلس الدستوري موقفه بعدة حجج.
في مرحلة أولى، اعتبر المجلس أنّ المادة الـ18 من قانون إنشائه لا تتعارض مع المادة الـ19 من الدستور، عندما تنصّ على أنّ مهمّات المجلس تشمل مراقبة «النصوص التي لها قوة القانون»، في الوقت الذي لا تشير المادة الـ19 من الدستور إلّا إلى «مراقبة دستورية القوانين». فبالنسبة إلى المجلس الدستوري، أنّ قانون إنشائه، بما في ذلك المادة الـ18 منه، أُقِرّ تنفيذاً لأحكام المادة الـ19 من الدستور، أي بناءً على تفويض من المشرّع الدستوري. إلّا أنّ هذا التعليل لا يتلاءم مع نص المادة الـ19 من الدستور التي تنص في فقرتها الأخيرة على أن «تُحدّد قواعد تنظيم المجلس وأصول العمل فيه وكيفية تشكيله ومراجعته بموجب قانون»، من دون أي إشارة، كما يمكن ملاحظته، إلى صلاحية هذا المجلس. ففي نصّها أنّ المجلس الدستوري مُخوّل مراقبة دستورية «النصوص التي لها قوة القانون»، تُشكّل المادة الـ18 من قانون إنشاء المجلس الدستوري مخالفة صريحة للمادة الـ19 من الدستور، ما يجعل المجلس غير ملزم بتطبيق المادة الـ18 وبمراقبة النصوص التي لها قوة القانون.
في هذا السياق، تمكّن القاضيان المخالفان من تقديم الدليل الساطع على أنّه بحفظه صلاحية أُعطِيت له بموجب قانون «عادي»، يكون المجلس قد ناقض نفسه بنفسه. ففي قراره الشهير في 2005/8/6 ، رقم 2005/1، الذي أشار إليه القاضيان، أكّد المجلس أنّ «اختصاصه يرتقي إلى المرتبة الدستورية تبعاً لإنشاء المجلس الدستوري وتحديد اختصاصه بموجب نص دستوري ممّا يجعل منه سلطة دستورية... يستحيل المساس باختصاصها، وتعديلها أو التنازل عنها إلّا بتعديل دستوري».
في مرحلة ثانية، أكّد المجلس أن ّالدستور «حصر صلاحية التشريع في مجلس النواب ونصّ على أنّ القانون لا يكون مرعِياً ومعمولاً به ما لم يُقرّه مجلس النواب ويُصدِره رئيس الجمهورية ويطلب نشره». إلّا أنّه بدل أن ينطلق من هذه المبادئ ليؤكّد أنّ المراسيم الصادرة عن السلطة التنفيذية لا تتوافر فيها هذه الصفات، بالتالي لا يمكن أن تُعتبر قوانين تخضع لرقابته، اعتبر المجلس أنّ المادة الـ86 من الدستور تُشكّل «استثناءً» على المبادئ الآنفة الذكر، شرط أن تُحقق شروط المادة الـ86، أي عدم تمكن المجلس النيابي من البَتّ بمشروع الموازنة طوال عقدَين، وطرح المشروع على المجلس قبل بداية عقده بـ15 يوماً.
من الصعب معرفة الهدف الذي من أجله لجأ المجلس إلى مفهوم «الاستثناء»، لأنّه يؤدّي إلى عكس ما يُريد استنتاجه. فكلمة «استثناء» تعني القاعدة التي تُطبّق في شكل استثنائي، وتختلف عن القاعدة العامة، وذلك لمواجهة ظروف خاصة. فعندما نقول إنّ المادة الـ86 تشكّل استثناءً على المبدأ القائل «إنّ القانون لا يكون مرعياً ومعمولاً به ما لم يُقرّه مجلس النواب»، إلّا أنّ ذلك يعني أنّ النص الصادر بموجب هذه المادة ليس له صفة القانون ولا يخضع بالتالي لرقابة المجلس الدستوري؟
أخيراً، بالنسبة إلى القاضي الدستوري، إنّ قانون المحاسبة العمومية هو قانون «أساسي»، وهو في عداد المواضيع الأساسية المذكورة في المادة الـ65 من الدستور. كذلك يعتبر المجلس أنّ صلاحية إقرار الموازنة من حيث مضمونها تعود إلى السلطة التشريعية بموجب قانون، وأنّ إعمال أحكام المادة الـ86 من الدستور من شأنه نقل الصلاحية إلى السلطة التنفيذية» ما يؤدّي إلى الإفلات من رقابة دستورية القوانين التي تعود إلى المجلس الدستوري، وهذا ما لم يستسغه المجلس.
من المستغرب أن يُشير المجلس الدستوري إلى مفهوم القانون الأساسي (la loi organique) لأنّه من المعلوم أنّ دستورنا، خلافاً للدستور الفرنسي، لا يعرف هذا المفهوم. والأكثر غرابة أن يُستشهَد بالمواضيع الأساسية التي تُعدّدها المادة الـ65 من الدستور، لأنّ ذلك لا علاقة له بتصنيف القوانين الصادرة عن مجلس النواب أو بتحديد المرجع الصالح للرقابة على هذه المواضيع، وإنّما بتحديد الغالبية اللازمة لاتخاذ القرارات بشأنها في مجلس الوزراء.
في مخالفتهم لقرار الأكثرية، اعتبر القاضيان سرحان وفرحات «أنّ التمادي في منح المجلس الدستوري صلاحيات بموجب قوانين عادية... قد يُطيح باستقلالية هذا المجلس ويجعله خاضعاً إلى مزاجية التعديلات التي تقرّرها السلطة التشريعية، وهي من المفترض أنّها خاضعة لرقابة المجلس». وهذا ما عبّرنا عنه في مقالنا السابق ذكره، بتخوّفنا من «أن يُحدّد الخاضع للرقابة صلاحيات المُراقب». لكن ما العمل إذا كان «القاضي راضي»!؟