هل يغرق الجيش الإسرائيلي في "وحول" مدينة غزة؟

تتسارع وتيرة التطوّرات العسكرية على خريطة قطاع غزة المنكوب، مع تأهّب الجيش الإسرائيلي لاحتلال مدينة غزة الواقعة في شمال القطاع، بالكامل، والتي تُعدّ إحدى كبرى مدن القطاع، وتعتبرها إسرائيل قلب حكم حركة حماس، وأحد معاقلها الحصينة المتبقية.

الاستعدادات الإسرائيلية لاحتلال المدينة، رافقها تحفظ عسكري غير مسبوق قاده رئيس الأركان العامة إيال زامير، المتخوّف على حياة من تبقّى من أسرى إسرائيليين في شِباك حماس، لاعتبار القيادة العسكرية أنهم قد يكونون موجودين في تلك البقعة من القطاع التي تُعتبر حصنًا لا يُستهان به للحركة، فضلًا عن إدراك زامير حال الإنهاك التي تُصيب الجنود الإسرائيليين، باعتبار أن الحرب على غزة هي إحدى أطول الحروب المتواصلة التي تخوضها الدولة العبرية، المنغمسة أيضًا حتى أخمص قدميها بحروب على جبهات متعدّدة في آن، ناهيك بمعارضة العديد من جنود الاحتياط الالتحاق بالثكنات ومن ثمّ الجبهات، ويتوجّسون من الغرق في وحول غزة الدامية. وقد حاول رئيس الأركان في بادئ الأمر معارضة القرار السياسي الذي اتخذه بطبيعة الحال رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ووزراؤه اليمينيون المتعطّشون لمواصلة الحروب، إلّا أنه سرعان ما انصاع للقرار السياسي، مكتفيًا بتسجيل اعتراضه.

وهنا، تتعاظم المآخذ السياسية على نهج زامير العسكري الذي يوصف بالحذِر للغاية في تعاطيه مع الهجوم على مدينة غزة، فهو يعتمد على التحرّك ببطء وحذر، وعلى تكثيف القصف للحدّ من الخسائر في صفوف الوحدات المهاجِمة، لا بل إنّ بعض الأصوات التي تدور في فلك بيبي تتهمه بالمماطلة، وتعتبر أنه يسيّر الجيش ببطء، أي في خلال أسبوع يطوّق المدينة، وفي الأسبوع التالي يستدعي مزيدًا من الاحتياط، مراهنًا ربّما على تبدّل ما في القرار السياسي المصرّ على المضيّ في احتلال غزة.

وفي هذا السياق، لا يغيب عن بال زامير أنّ الاتهامات السياسية التي تُساق ضدّه من جانب بيئة نتنياهو السياسية، حتى قبل انطلاق الهجوم الشامل على مدينة غزة، قد تكون تمهيدًا لتحميل الجيش مسؤولية أي فشل عمليّاتي في معركة المدينة، ومن ثمّ تحويل رئيس الأركان مرّة جديدة كبش محرقة يضحّي به نتنياهو، ليقي نفسه شرّ المساءلة السياسية.

وقد عزّز رئيس الأركان موقفه الحذِر، بتنظيمه جولة ميدانية للمراسلين العسكريين داخل القطاع، الذين خرجوا بانطباع مفاده أن غزة هي فخ استراتيجي كامل الأوصاف للجيش الإسرائيلي، وبأنّ نتنياهو واعٍ لجرّ الجيش إليه، وهو يراهن على استسلام حماس قبل إكمال احتلال المدينة.

وفي انتظار جلاء صورة المعركة وارتداداتها السياسية، يجهد كلّ من حماس ونتنياهو لتعزيز شروطهما التفاوضية ميدانيًا. فالحركة وجّهت ضربة موجِعة نسبيًا السبت خلال كمين مُحكَم في حي الزيتون شرق مدينة غزة لسبعة جنود إسرائيليين، سرت في بادئ الأمر أنباء عن أسر بعضهم، ليتبيّن لاحقًا أنهم جُرحوا من جرّاء انفجار عبوة ناسفة بحاملة جند مدرّعة كانت تقلّهم.

في المقابل، تمكّنت إسرائيل من اغتيال جوزيف غوبلز حماس، الناطق باسم كتائب القسام، أبو عبيدة، بعد محاولتين باءتا بالفشل لقتله منذ بدء الحرب على غزة، وهي تعدّه صيدًا ثمينًا، لطالما حيّر منظومتها الاستخباراتية، وكان ملهِمًا لمقاتلي حماس ويدبّ الحماسة في نفوسهم، وهذه الخطوة من شأنها أيضًا تعزيز موقف نتنياهو الداعي إلى مواصلة الحرب.

في الغضون، تراوحت الأقلام العبرية بين انتقاد نتنياهو لتوسيع حربه على القطاع لغايات سياسية، وبين الإشادة بخطوته، لا بل دعا بعضها إلى احتلال القطاع بالكامل، نظرًا لمردود ذلك الاحتلال اقتصاديًا على الخزينة الإسرائيلية.

المحلّل العسكري في هآرتس عاموس هرئيل رأى أن الصعوبة التي تواجه نتنياهو، تكمن في الجدول الزمني للعملية البرية، إذ لا يوجد تطابُق بين ما يعِد به، خصوصًا ما يروّجه على مسامع الرئيس الأميركي، وبين وتيرة التقدّم المخطط للعملية على الأرض، معتبرًا أن بيبي نجح مجدّدًا في الحصول على دعم ترامب، على غرار ما فعل في شأن استئناف القتال في غزة في آذار الفائت والحملة ضدّ إيران في حزيران المنصرم، والآن بحسب هرئيل، أقنعه بأن العملية المرتقبة ستضرب مركز ثقل حماس الأخير، وتفتح الطريق لنقاش مسألة اليوم التالي، وفقًا لما يريده البيت الأبيض.

رئيس الاستخبارات العسكرية السابق عاموس يادلين والكاتب أودي أفينتال، اعتبرا لـ قناة N12 أن نتنياهو وحكومته يفضلان استمرار الحرب حتى تحقيق النصر المطلق، على حساب وقفها وإطلاق الأسرى. وفي الواقع يدور الأمر، بحسب يادلين وأفينتال، حول جملة من المزاعم، و الديماغوجية التي تُضلّل الجمهور لدوافع سياسية، وتستغلّ صدمة 7 أكتوبر لبثّ الرعب فيه، لكنها تفشل في اختبار المنطق الذي يثبت أنه لا يوجد مسار عسكري يمكن أن يؤدي إلى إسقاط حماس وإعادة جميع الأسرى.

الكاتب في يسرائيل هيوم نداف هاعتسني تناول الجانب الاقتصادي من احتلال غزة، وسأل: كم سيكلّفنا الاحتفاظ بالقطاع؟ وهل يفوق الثمن الاقتصادي قدراتنا ويؤدّي لإفلاس الدولة؟ أم أن الأمر ليس سوى ذريعة ماكرة؟ ليجيب أن الحكم العسكري ربح صافٍ، ويعود بالذاكرة إلى السنوات التي عمل خلالها الحكم العسكري الإسرائيلي، وتراكمت خلالها فوائض مالية كانت تُغذي الخزينة، مضيفًا أن بلاده ربحت تاريخيًا من النشاط الاقتصادي الناتج من التفاعل مع فلسطينيي الضفة وغزة، سواء عبر البضائع، أو الخدمات التي باعتها الشركات الإسرائيلية في تلك المناطق. واعتبر أنه حتى من دون القضاء على السلطة الفلسطينية، ستذهب إيرادات النشاط الاقتصادي لسكان غزة إلى الإدارة العسكرية الإسرائيلية، بدلًا ممّا أسماه العدو في رام الله، وبالتالي فإن التنبؤات السوداء بالثمن الاقتصادي للاحتفاظ بغزة، تتناقض مع الوقائع والتجربة التاريخية.