اخبار لبنان
موقع كل يوم -المرده
نشر بتاريخ: ٣٠ أب ٢٠٢٥
كتب جوزف القصيفي نقيب محرري الصحافة في 'الجمهورية'
منذ إعلان «دولة لبنان الكبير» عام 1920 لم تشهد هذه الدولة إستقراراً مستداماً مع الجارة سوريا، وكانت العلاقة بينهما في مدّ وجزر على رغم من التداخل الجغرافي، والعلاقات الإنسانية المركوزة في روابط عائلية بين مسيحيّي البلدَين، وبين مسلميهما، إذ إنّ لكثير من العائلات أقارب في كلَيهما، ومصاهرات لا تزال قائمة.
في أدبيات السوريِّين منذ العشرينات، بُعيدَ ضم الأقضية الأربعة إلى ما كان يُعرَف سابقاً بـ»المتصرّفية» التي انهارت في بدايات الحرب الكونية الأولى، وقضى على استقلالها الذاتي إلحاقها بالإدارة المباشرة للسلطنة العثمانية، أنّ هذه الأقضية سورية، وأنّ اتفاق سايكس-بيكو إنتزعها من بلدها الأم، وإذا كان ذلك قد تمّ بقوّة الواقع السياسي والديبلوماسي الذي لم يكن في قدرة أحد دفعه، فإنّه لا يُسقِطه من الذاكرة، ولا يُبدِّل من الإقتناع. هذا الشعور كان قائماً في سوريا قبل استقلالها، وبعده، وفي المرحلة التي سادها نشاط دستوري سلمي وانتخابات ديموقراطية، كما في مرحلتَي الإنقلابات العسكرية المتلاحقة، وحُكم حزب البعث، وخصوصاً فترة حكم آل الأسد.
وليس هناك ما يؤشر إلى تبدّل هذا الإقتناع مع سقوط النظام السابق، ووصول الرئيس الإنتقالي أحمد الشرع إلى السلطة. لذلك، يُتوقّع ألّا تكون العلاقات اللبنانية-السورية مستقبلاً سلِسة، بالمقدار الذي يمكن الإطمئنان إلى أنّها ستكون مماثلة لبلدان تتقاسم حدوداً مشتركة يحكمها القانون وحُسن الجوار. لن يكون الحُكم على النيّات هو المعيار الذي يركن إليه في تحديد العلاقات بين البلدَين على إثر سقوط نظام بشار الأسد، بل الوقائع وما يمكن استخلاصه منها. نحن اليوم أمام رجل يجتهد ليُقدّم صورة مختلفة عن «الجولاني»، ويعمل لإقناع الغرب والعرب بقدرته على بناء سوريا جديدة قائمة على الديموقراطية والشراكة الوطنية وتكافؤ الفرص. وهذا ما حدا بالولايات المتحدة والدول الخليجية، خصوصاً السعودية، إلى تقديم الدعم السياسي، الديبلوماسي والمادي له، على رغم من المشكلات التي ترسف سوريا في قيودها سواء في السويداء، أو الساحل وحتى درعا، ممّا يُبعِد إحتمال توافر الإستقرار قريباً.
ويواجه الشرع تحدّيات كبيرة في الداخل وعلى حدود دولته:
أولاً: عدم إطمئنان الأقليات العلوية والدرزية والمسيحية لمصيرها بعد الأحداث الدامية التي حصلت. والحذر الكردي الدائم مع تواصل المحادثات مع» قسد».
ثانياً: الوضع الغامض على الحدود مع لبنان شرقاً وشمالاً والمفتوح على كل الإحتمالات، في ظل التعقيدات التي تلف المشكلات العالقة بين البلدَين، خصوصاً التوتر القائم على جانبَي الحدود الشرقية والتبايُن في وجهات النظر في ملف الأسرى السوريِّين في السجون اللبنانية.
ثالثاً: ملف النازحين السوريين الذي لم يُسجَّل أي خرق ذي أهمية فيه، سوى تصريحات متفرّقة من جانب المسؤولين في دمشق بالإنفتاح على أي خطوة ترمي إلى وضعه على سكة الحل في المدى المنظور.
رابعاً: على رغم من إنقلاب الشرع على ثوابت السياسة القومية والوطنية التي قامت منذ العام 1948 بالعداء لإسرائيل على إثر إحتلالها فلسطين بقرار جامعة الدول العربية، وازدادت تشدّداً بعد احتلال الجولان في العام 1967، فإنّ إسرائيل تواصل عملياتها في سوريا وإنزالاتها الجوية واحتلالها مواقع استراتيجية في منطقة الجولان، ومناطق أخرى في الجنوب السوري، وتقيم مراكز لها مشرفة على عقد المواصلات الرئيسة التي تربط دمشق بعدد من المحافظات وخصوصاً السويداء ودرعا.
والسؤال: هل من صلة لمحادثات وزير الخارجية السورية أسعد الشيباني في كل من باكو وباريس مع وزير الشؤون الإستراتيجية الإسرائيلية رون ديرمر، بالتطوّرات في جنوب البلاد؟ وهل إنّ استمرار تل أبيب في عملياتها بهذه الكثافة هدفه استسلام دمشق كلياً لشروطها وإملاءاتها، وعدم اكتفائها بترتيبات أمنية، وصولاً إلى التطبيع الكامل، ومن الصعب بمكان معرفة طبيعة المناخ الجماعي للمكوّنات السورية حيال فكرة التطبيع؟ وهل إنّ الأرض مهيّأة لمثل هذه النقلة الاستراتيجية؟
علماً أنّه منذ العام 1948، وفي مختلف حقب الأنظمة التي توالت على سوريا، لم يقم أي رئيس بخطوة بمثل هذه الدقة والخطورة. فهل سيُقدِم الشرع وحكومته على التطبيع كائنةً ما تكون المحاذير، أو يتمهّل مكتفِياً بترتيبات بذريعة أنّ بلاده «مغلوب على أمرها»، وأنّ هذه الترتيبات موقتة في انتظار الحل الشامل للقضية الفلسطينية؟
خامساً: الشرع هو تحت أكثر من مِجهَر: المجهر التركي الذي يرصد حواره مع الجانب الإسرائيلي ومدى انعكاس ذلك على مصالح أنقرة الإستراتيجية في سوريا، كما يرصد مفاوضاته مع «قسد»، ويقيس درجة تقاربه مع دول الخليج ولا سيما منها السعودية.
فتركيا تعتبر هذا البلد حديقتها الخلفية، امتدادها الإقتصادي، بوّابتها إلى المشرق العربي، وحزامها الأمني الذي تريده تحت رقابتها. فهي تسمح للشرع بهامش من المناورة، لكنّها لا تمزح أو تلعب في الموضوع الاستراتيجي.
والشرع تحت المجهر الأوروبي. فأوروبا ترغب في حصة لها من «الكعكة» السورية، وهي تُبدي حرصاً على الأقليات الدينية والإتنية في سوريا تحت شعار «الحفاظ على التنوّع»، خصوصاً بعد النشاط الذي بذله الفاتيكان لدى عواصمها ومطالبته لها بالضغط على الإدارة السورية الجديدة بوضع حدٍّ لمضايقة المسيحيِّين وعدم التعرّض لهم.
وهو تحت المجهر الروسي المتمسّك بقواعده ومصالحه في الساحل السوري ونفوذه في منطقة درعا. وإنّ عدم أخذ هذا الأمر في الاعتبار سيتسبّب بمزيد من المشكلات للشرع. وربما هذا ما حدا بالأخير إلى إيفاد وزير خارجيّته إلى موسكو، مدفوعاً برغبة في التفاهم وتنظيم العلاقة بين البلدَين.
وهناك المجهر الخليجي. فدول مجلس التعاون، على رغم من تفاوت نظرتها أو قراءتها للواقع السوري الراهن، فإنّها حريصة على ألّا يسبح الشرع عكس تيّارها، ويُقدِم على أي خطوة لا ترتاح إليها. كما ترى أنّ استقرار سوريا وتطبيق المعايير التي تنسجم مع استراتيجيّتها الآنية والبعيدة المدى، يعنيان استقراراً دائماً أو على الأقل طويل الأمد في المنطقة بأسرها.
بنظرة موضوعية: إنّ كل طرف من الأطراف المعنيِّين بالوضع في سوريا له «أجندته» ومطالبه، ولا تجمع بينهم وحدة رؤية وهدف، باستثناء هدف واحد وهو منع عودة النفوذ الإيراني إلى دمشق أياً يكن الثمن. من الآن وحتى يستتبّ الوضع للشرع ويستطيع القول «الأمر لي»، يمكن للبنانيِّين أن يطمئنّوا إلى أنّ إعادة تلزيم بلدهم لسوريا، كما السابق، غير واردة أو على الأقل مستأخرة جداً.